ما جئت حتى اشتقت إليك؟ فقال جبريل عليهالسلام : إني كنت إليك أشدّ شوقا ولكني عبد مأمور وأنزل الله تعالى : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ)(١) [مريم : ٦٤].
(وَلَلْآخِرَةُ) التي هي المقصود من الوجود بالذات لأنها باقية خالصة عن شوائب الكدر (خَيْرٌ لَكَ ،) أي : لما فيها من الكرامات لك (مِنَ الْأُولى ،) أي : الدنيا الفانية التي لا سرور فيها خالص وقيد تعالى بقوله سبحانه : (لَكَ) لأنها ليست خيرا لكل أحد.
قال البقاعي : إنّ الناس على أربعة أقسام : منهم من له الخير في الدارين وهم أهل الطاعة الأغنياء ، ومنهم : من له الشرّ فيهما وهم الكفرة الفقراء ، ومنهم من له صورة خير في الدنيا وشرّ في الآخرة وهم الكفرة الأغنياء ، ومنهم من له صورة شرّ في الدنيا وخير في الآخرة وهم المؤمنون الفقراء. وروى البغوي بسنده عن ابن مسعود قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : إنا أهل البيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا» (٢).
(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ ،) أي : بوعد لا خلف فيه وإن تأخر وقته بما أفهمته الأداة (رَبُّكَ ،) أي : المحسن إليك بسائر النعم في الآخرة من الخيرات عطاء جزيلا (فَتَرْضى ،) أي : به فقال صلىاللهعليهوسلم : «إذا لا أرضى وواحد من أمّتي في النار» (٣). وعن عبد الله ابن عمرو بن العاص : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم رفع يديه وقال : «اللهمّ أمّتي أمّتي وبكى فقال الله تعالى : يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمّتك ولا نسوؤك» (٤). وعن أبي هريرة أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «لكل نبيّ دعوة مستجابة فتعجل كل نبيّ دعوته ، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمّتي يوم القيامة فهي نائلة من مات لا يشرك بالله شيئا» (٥) وعن عوف بن مالك أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «أتاني آت من عند ربي يخيرني بين أن يدخل نصف أمّتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة ، فهي نائلة من مات لا يشرك بالله شيئا» (٦). وعن شريح قال : سمعت أبا جعفر محمد بن عليّ يقول : إنكم معشر أهل العراق تقولون أرجى آية في القرآن (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) [الزمر : ٥٣] وإنا أهل البيت نقول : أرجى آية في كتاب الله (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) وفي هذا موعد لما أعطاه الله تعالى في الدنيا من الفتح والظفر بأعدائه يوم بدر ويوم فتح مكة ودخول الناس في الدين أفواجا ، والغلبة على قريظة والنضير وإجلائهم وبث عساكره وسراياه في بلاد العرب وما فتح على خلفائه الراشدين في أقطار الأرض من المدائن ، وهدم بأيديهم من ممالك الجبابرة ، وأنهبتهم من كنوز الأكاسرة وما
__________________
(١) روي الحديث بلفظ : «ألا تزورنا أكثر مما تزورنا؟» أخرجه بهذا اللفظ البخاري في بدء الخلق حديث ٣٢١٨ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٣١٥٨.
(٢) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ١٠ / ١٠٤ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٨٦٧٧.
(٣) انظر القرطبي في تفسير ٢٠ / ٩٦.
(٤) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٢٠٢ ، والنسائي في السنن الكبرى ، في التفسير.
(٥) روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة ، أخرجه البخاري في التوحيد باب ٣١ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٩٩ ، والترمذي في الدعوات حديث ٣٦٠٢ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤٣٠٧ ، ومالك في مسّ القرآن حديث ٢٦ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٨١ ، ٢٩٥ ، ٢ / ٢٧٥ ، ٣٨١ ، ٣٩٦ ، ٤٢٦ ، ٤٨٦ ، ٤٨٧ ، ٣ / ١٣٤ ، ٢٠٨ ، ٢١٨ ، ٢١٩ ، ٢٥٨ ، ٢٧٦ ، ٢٩٢ ، ٣٨٤ ، ٣٩٦ ، ٥ / ١٤٥ ، ١٤٨ ، ٣٢٦.
(٦) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ٢٣٢ ، وانظر الحاشية السابقة.