فإن قيل : ما الحكمة في أن الله تعالى اختار لنبيه صلىاللهعليهوسلم اليتم؟ أجيب : بوجوه :
أحدها : أن يعرف حرارة اليتيم فيرفق باليتيم.
ثانيها : يشاركه في الاسم فيكرمه لأجل ذلك لقوله صلىاللهعليهوسلم : «إذا سميتم الولد محمدا فأكرموه ووسعوا له في المجلس» (١).
ثالثها : ليستند من أوّل عمره على الله تعالى فيشبه إبراهيم عليهالسلام في قوله : «حسبي من سؤالي علمه بحالي» (٢).
رابعها : أنّ اليتيم تظهر عيوبه فلما لم يجدوا عيبا لم يجدوا فيه مطعنا.
خامسها : جعله يتيما ليعلم كل أحد أن فضيلته ابتداء من الله تعالى لا من تعليم ، لأن من له أب فإنه يؤدّبه ويعلمه.
سادسها : اليتم والفقر نقص في العادة فكونه صلىاللهعليهوسلم مع هذين الوصفين من أكرم الخلق كان ذلك قلبا للعادة فيكون معجزة.
(وَأَمَّا السَّائِلَ ،) أي : الذي أحوجته العيلة أو غيرها إلى السؤال (فَلا تَنْهَرْ ،) أي : فلا تزجر ، يقال نهره وأنهره إذا زجره وأغلظ عليه القول ولكن ردّه ردا جميلا قال إبراهيم ابن أدهم : نعم القوم السؤال يحملون زادنا إلى الآخرة. وقال إبراهيم النخعي : السائل بريدنا إلى الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول : هل تبعثون إلى أهليكم بشيء. وقيل : المراد بالسائل هنا الذي يسأل عن الدين. وروى الزمخشري أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا رددت السائل ثلاثا فلم يرجع فلا عليك أن تزبره» (٣).
وقيل : أما أنه ليس السائل المستجدي ولكن طالب العلم إذا جاءك فلا تنهره.
(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ،) أي : المحسن إليك بالنبوّة وغيرها (فَحَدِّثْ) بها فإن التحدّث بها شكرها ، وإنما يجوز لغيره صلىاللهعليهوسلم مثل هذا إذا قصد به اللطف وأن يقتدي به غيره وأمن على نفسه الفتنة والستر أفضل ولو لم يكن في الذكر إلا التشبه بأهل الرياء والسمعة لكفى.
والمعنى : إنك كنت يتيما وضالا وعائلا فآواك الله وهداك وأغناك ، فمهما يكن من شيء فلا تنس نعمة الله عليك في هذه الثلاث ، واقتد بالله فتعطف على اليتيم وآوه فقد ذقت اليتم وهوانه ورأيت كيف فعل الله تعالى بك ، وترحم على السائل وتفقده بمعروفك ولا تزجره عن بابك كما رحمك ربك فأغناك بعد الفقر ، وحدث بنعمة الله كلها. ويدخل تحته هدايته الضلال وتعليمه الشرائع ، والقرآن مقتديا بالله تعالى في أن هداه من الضلالة.
وقال مجاهد : تلك النعمة هي القرآن ، والتحديث به أن يقرأ ويقرئ غيره. وعنه أيضا : تلك النعمة هي النبوّة ، أي : بلغ ما أنزل إليك من ربك. وقيل : تلك النعمة هي أن وفقك الله سبحانه
__________________
(١) أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ٣ / ٩١ ، والشوكاني في الفوائد المجموعة ٣٢٨ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٤٥١٩٨.
(٢) أخرجه الألباني في السلسلة الضعيفة ٢١ ، وابن الجوزي في زاد المسير ٥ / ٣٦٧ ، والعجلوني في كشف الخفاء ١ / ٤٢٧.
(٣) أخرجه المتقي الهندي في كنز العمال ١٦٢٥٣ ، ١٦٧٩١ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٣ / ٩٩.