طلقت إلا رجلا واحدا من أصحاب أبي حنيفة فإنه كان ساكتا ، فقال له المنصور : ما لك لا تتكلم ، فقال الرجل : بسم الله الرحمن الرحيم (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) إلى قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) يا أمير المؤمنين فالإنسان أحسن الأشياء ، ولا شيء أحسن منه ، فقال المنصور لعيسى : الأمر كما قال الرجل فأقبل على زوجتك ، فأرسل المنصور إليها أطيعي زوجك فما طلقك. وهذا يدل على أنّ الإنسان أحسن خلق الله تعالى ولذلك قيل : إنه العالم الأصغر إذ كل ما في المخلوقات اجتمع فيه.
(ثُمَّ رَدَدْناهُ) أي : بعض أفراداه بما لنا من القدرة الكاملة (أَسْفَلَ سافِلِينَ) أي : إلى الهرم وأرذل العمر فيضعف بدنه وينقص عقله ، والسافلون هم الضعفاء والزمنى والأطفال ، والشيخ الكبير أسفل من هؤلاء جميعا لأنه لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا ، فقوس ظهره بعد اعتداله ، وأبيض شعره بعد اسوداده ، وكل بصره وسمعه وكانا حديدين ، وتغير كل شيء منه فمشيه دليف وصوته خفات وقوّته ضعف وشهامته خرف. وقيل : ثم رددناه إلى النار لأنها دركات بعضها أسفل من بعض.
فقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا) أي : تصديقا لدعواهم الإيمان (الصَّالِحاتِ) أي : الطاعات استثناء متصل على الثاني على أنّ المعنى : رددناه أسفل من سفل خلقا وتركيبا يعني : أقبح من قبح صورة وأشوهه خلقة ، وهم أهل النار وأسفل من سفل من أهل الدركات. فالاتصال على هذا واضح ، وعلى الأوّل منقطع ، أي : لكن الذين كانوا صالحين من الهرمى (فَلَهُمْ) أي : فتسبب عن ذلك أن كان لهم (أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي : ثواب دائم غير منقطع على طاعاتهم وصبرهم على ابتلاء الله تعالى لهم بالشيخوخة والهرم وعلى مقاساة المشاق والقيام بالعبادة على تخاذل نهوضهم وفي الحديث : «إذا بلغ المؤمن من الكبر ما يعجز عن العمل كتب له ما كان يعمل» (١). وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إلا الذين قرؤوا القرآن ، وقال : من قرأ القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر. ثم قال تعالى إلزاما للحجة :
(فَما يُكَذِّبُكَ) أي : أيها الإنسان الكافر (بَعْدُ) أي : بعد ما ذكر من خلق الإنسان من نطفة وتقويمه بشرا سويا وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يستوي ويكمل ويصير في أحسن تقويم ، ثم يردّ إلى أرذل العمر الدال على القدرة على البعث ، فيقول : إنّ الذي فعل ذلك قادر على أن يبعثني ويحاسبني فما سبب تكذيبك أيها الإنسان (بِالدِّينِ) أي : الجزاء بعد هذا الدليل القاطع. وقيل : الخطاب للنبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وعلى هذا يكون المعنى : فما الذي يكذبك فيما تخبر به من الجزاء أو البعث بعد هذه العبر التي يوجب النظر فيها صحة ما قلت
وقوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ) أي : الملك الأعظم على ما له من صفات الكمال (بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) أي : بأقضى القاضين. وعيد للكفار وأنه يحكم عليهم بما هم أهله. وفي الحديث : «من قرأ التين إلى آخرها فليقل : بلى وأنا على ذلك من الشاهدين» (٢). وقول البيضاوي تبعا للزمخشريّ : عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من قرأ سورة والتين أعطاه الله تعالى خصلتين العافية واليقين ما دام في دار الدنيا وإذا مات أعطاه الله من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة» (٣) حديث موضوع.
__________________
(١) أخرجه بلفظ قريب منه البخاري في الجهاد حديث ٢٩٩٦.
(٢) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٢٤٩.
(٣) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٧٨٠.