نصف شعبان ، ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر ، وهذا يصلح أن يكون جمعا بين القولين في قوله تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) فإنه قيل فيها : إنها ليلة النصف من شعبان وقيل : ليلة القدر وحينئذ لا خلاف ، وقيل : سميت بذلك لتضيقها بالملائكة. قال الخليل : لأن الأرض تضيق فيها الملائكة كقوله تعالى : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) [الطلاق : ٧] وقيل : سميت بذلك لعظمها وشرفها وقدرها من قولهم : لفلان قدر ، أي : شرف ومنزلة قاله الأزهري وغيره. وقيل : سميت بذلك لأن للطاعة قدرا عظيما وثوابا جزيلا. وقيل : لأنه أنزل فيها كتابا ذا قدر على رسول ذي قدر ، ومعنى أنّ الله تعالى يقدر الآجال : أنه يظهر ذلك لملائكته ويأمرهم بفعل ما هو من سعتهم بأن يكتب لهم ما قدّره في تلك السنة ، ويعرّفهم إياه ، وليس المراد أنه يحدث في تلك الليلة لأن الله تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض في الأزل قيل للحسين بن الفضل : أليس قد قدر الله تعالى المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض ، قال نعم ، قيل له : فما معنى ليلة القدر ، قال : سوق المقادير إلى المواقيت ، وتنفيذ القضاء المقدّر.
واختلفوا هل هي باقية أو لا؟ فقيل : إنها كانت مرّة ثم انقطعت ، وقيل : إنها رفعت بعد النبي صلىاللهعليهوسلم ، والصحيح أنها باقية إلى يوم القيامة. وروي عن عبد الله بن محسن مولى معاوية قال : قلت لأبي بكر : زعموا أن ليلة القدر قد رفعت ، قال : كذب من قال ذلك ، قلت : هي في كل شهر رمضان أستقبله ، قال : نعم. وعن سعيد بن المسيب أنه سئل عن ليلة القدر أهي شيء كان فذهب ، أم هي في كل عام ، فقال : بل هي لأمة محمد صلىاللهعليهوسلم ما بقي منهم اثنان ، واستدل من قال برفعها بقوله صلىاللهعليهوسلم حين تلاحى الرجلان : «إني خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت ، وعسى أن يكون خيرا لكم» وهذا غفلة من هذا القائل ففي آخر الحديث «فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة» (١) فلو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها.
واختلفوا في وقتها فأكثر أهل العلم أنها مختصة برمضان ، واحتجوا بقوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة : ١٨٥]. وقال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.) فوجب أن لا تكون ليلة القدر إلا في رمضان لئلا يلزم التناقض. وروي عن أبي ابن كعب أنه قال : والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان حلف بذلك ثلاث مرات ، وعن ابن عمر قال : سئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأنا أسمع عن ليلة القدر فقال : «هي في كل رمضان» (٢) وقيل : هي دائرة في جميع السنة لا تختص برمضان حتى لو علق طلاق امرأته أو عتق عبده بليلة القدر لا يقع ما لم تنقض سنة من حين حلف ، يروى ذلك عن أبي حنيفة. وعن ابن مسعود أنه قال : من أراد أن يعرف ليلة القدر فلينظر إلى غرة رمضان ، أي : إلى أوّله فإن كان يوم الأحد فليلة القدر ليلة تسع وعشرين ، وإن كان يوم الاثنين فليلة القدر إحدى وعشرين ، وإن كان يوم الثلاثاء فليلة سبع وعشرين ، وإن كان يوم الأربعاء فليلة تسعة عشر ، وإن كان يوم الخميس فليلة خمس وعشرين ، وإن كان ليلة الجمعة فليلة سبعة عشر ، وإن كان يوم السبت فليلة ثلاث وعشرين. وعلى القول الأول هل هي في كل زمان أو في العشر الأخير قولان : أحدهما : أنها في كل شهره.
__________________
(١) أخرجه البخاري في الإيمان حديث ٤٩.
(٢) أخرجه أبو داود في الصلاة حديث ١٣٨٧ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٤ / ٣٠٧.