واختلفوا في أي ليلة منه فقال ابن رزين : هي الليلة الأولى من رمضان ، وقال الحسن البصري : السابعة عشر ، وقال أنس : التاسعة عشر ، وقال محمد بن إسحاق : الحادية والعشرون ، وقال ابن عباس : الثالثة والعشرون ، وقال أبيّ بن كعب : السابعة والعشرون. وقيل : التاسعة والعشرون ، وقيل : ليلة الثلاثين ، وكل استدل على قوله بما يطول الكلام عليه. والقول الثاني وهو ما عليه الأكثرون أنها مختصة بالعشر الأخير منه ، واستدل لذلك بأشياء منها : ما روى عبادة بن الصامت «أنه سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن ليلة القدر فقال : في رمضان فالتمسوها في العشر الأواخر». ومنها : ما روي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان» (١). وعن عائشة رضي الله عنها قالت : «كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها» (٢). وعنها قالت «كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا دخل العشر شدّ مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله» (٣).
واختلفوا في أنها أي ليلة من العشر ، هل في ليلة من ليالي العشر كله ، أو في أوتاره فقط ، وهل تلزم ليلة بعينها ، أو تنتقل في جميعه أقوال. والذي عليه الأكثر أنها في جميعه ، ولكن أرجاها أوتاره وأرجى الأوتار عند إمامنا الشافعي رضي الله عنه ليلة الحادي والعشرين أو الثالث والعشرين يدل للأوّل خبر الصحيحين وللثاني خبر مسلم وأنها تلزم عنده ليلة بعينها. وقال المزني صاحب الشافعي وابن خزيمة : إنها متنقلة في ليالي العشر جمعا بين الأحاديث ، قال النووي : وهو قويّ. وقال في مجموعه أنه الظاهر المختار وخصها بعض العلماء بأوتار العشر الأواخر ، وبعضهم بأشفاعه.
وقال ابن عباس وأبيّ : هي ليلة سبع وعشرين وهو مذهب أكثر أهل العلم ، واستنبط ذلك بعضهم من أنّ ليلة القدر ذكرت ثلاث مرّات ، وهي تسعة أحرف ، وإذا ضربت تسعة في ثلاثة تكون سبعة وعشرين ، وبعضهم استنبط ذلك من عدد كلمات السورة ، وقال : إنها ثلاثون كلمة وفاقا ، وقوله تعالى : (هِيَ) السابع والعشرون ، وهي كناية عن هذه الليلة فبان أنها ليلة السابع والعشرين ، وهو استنباط لطيف وليس بدليل كما قيل : وفيها نحو الثلاثين قولا وبضع وعشرون حديثا وأفردت بالتصنيف ، وفيما ذكرناه كفاية.
وذكروا للسبب في إخفائها عن الناس وجوها :
أحدها : أنه تعالى أخفاها ليعظموا جميع السنة على القول بأنها فيها ، أو جميع رمضان على القول به ، أو جميع العشر الأخير على القول به ، كما أخفى رضاه في الطاعات ليرغبوا في كلها ، وأخفى غضبه في المعاصي ليحذروها كلها ، وأخفى وليه من المسلمين ليعظموهم كلهم ، وأخفى
__________________
(١) أخرجه البخاري في الاعتكاف حديث ٢٠٢٧ ، ومسلم في الصيام حديث ١١٦٧ ، وأبو داود في الصلاة حديث ١٣٨٣ ، والنسائي في السهو حديث ١٣٥٦ ، وابن ماجه في الصيام حديث ١٧٦٦.
(٢) أخرجه مسلم في الاعتكاف حديث ١١٧٥ ، والترمذي في الصوم حديث ٧٩٦ ، وابن ماجه في الصيام حديث ١٧٦٧.
(٣) أخرجه البخاري في فضل ليلة القدر حديث ٢٠٢٤ ، ومسلم في الاعتكاف حديث ١١٧٤ ، وأبو داود في الصلاة حديث ١٣٧٦ ، والنسائي في قيام الليل حديث ١٦٣٩.