على ظهر بيت المقدس ، ولواء على ظهر المسجد الحرام ، ولواء على ظهر سيناء ، ولا يدع بيتا فيه مؤمن ولا مؤمنة إلا دخله وسلم عليهم ، يقول : يا مؤمن ويا مؤمنة السلام يقرئك السلام إلا على مدمن خمر ، وقاطع رحم ، وآكل لحم خنزير. وعن أنس أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا كان ليلة القدر نزل جبريل عليهالسلام في كبكبة من الملائكة يصلون ويسلمون على كل عبد قائم ، أو قاعد يذكر الله تعالى» (١). وهذا يدل على أن الملائكة كلهم لا ينزلون ، وظاهر الآية نزول الجميع وجمع بين ذلك بما روي أنهم ينزلون فوجا فوجا كما أنّ أهل الحج يدخلون الكعبة فوجا بعد فوج ، وإن كانت لا تسعهم دفعة واحدة كما أن الأرض لا تسع الملائكة دفعة واحدة ، ولذلك ذكر بلفظ تنزل الذي يقتضي المرّة بعد المرّة ، أي : ينزل فوج ويصعد فوج والله أعلم بذلك.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه : أن الملائكة في تلك الليلة أكثر من عدد الحصى ، وقال بعضهم : الروح ملك تحت العرش ورجلاه في تخوم الأرض السابعة وله ألف رأس أعظم من الدنيا ، وفي كل رأس ألف وجه ، وفي كل وجه ألف فم ، وفي كل فم ألف لسان يسبح الله تعالى بكل لسان ألف نوع من التسبيح والتحميد والتمجيد ، ولكل لسان لغة لا تشبه لغة أخرى. فإذا فتح أفواهه بالتسبيح خرّت ملائكة السموات السبع سجدا مخافة أن تحرقهم أنوار أفواهه ، وإنما يسبح الله تعالى غدوة وعشية فينزل في ليلة القدر لشرفها وعلوّ شأنها فيستغفر للصائمين والصائمات من أمة محمد صلىاللهعليهوسلم بتلك الأفواه كلها إلى طلوع الفجر.
وعن عليّ أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «رأيت ليلة أسري بي ملكا رجلاه جاوزت من الأرض السابعة السفلى ، ورأسه من السماء السابعة العليا ، ومن لدن رأسه إلى قدميه وجوه وأجنحة في كل وجه فم ولسان يسبح الرحمن تسبيحا لا يسبحه العضو الآخر ، ولو أمره الله تعالى أن يلتقم السموات السبع والأرضين السبع لقمة واحدة كما يلتقم أحدكم اللقمة لأطاق ذلك ، ثم لم تكن تلك في فيه إلا كلقمة أحدكم في فيه ، ولو سمع أهل الدنيا صوته بالتسبيح لصعقوا ، ما بين شحمة أذنه إلى منكبه خفقان الطير السريع سبعة آلاف سنة ، وهو رأس الملائكة» (٢). وقيل : الروح طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا في تلك الليلة ينزلون من لدن غروب الشمس إلى طلوع الفجر. (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي : بأمر المحسن إليهم المربي لهم (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) أي : قضاه الله تعالى فيها لتلك السنة إلى قابل ، وتقدّم الجمع بينها وبين ليلة النصف من شعبان ، ومن سببية بمعنى الباء.
الوجه الثالث : فضائلها ما ذكره تعالى بقوله سبحانه : (سَلامٌ) أي : عظيم جدّا ، وهو خبر مقدّم والمبتدأ. (هِيَ) جعلت سلاما لكثرة السلام فيها من الملائكة لا يمرّون بمؤمن ولا مؤمنة إلا سلمت عليه ويستمرّون على ذلك من غروب الشمس (حَتَّى) أي : إلى (مَطْلَعِ الْفَجْرِ) أي : وقت مطلعه ، أي : طلوعه. وقرأ الكسائي بكسر اللام على أنه كالمرجع أو اسم زمان على غير قياس كالمشرق ، والباقون بفتحها.
ومن فضائلها أنّ من قامها غفرت له ذنوبه ففي الصحيحين : «من قام ليلة القدر إيمانا
__________________
(١) أخرجه التبريزي في مشكاة المصابيح ٢٠٩٦ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ٣٧٧ ، والقرطبي في تفسيره ٢٠ / ١٣٤.
(٢) أخرجه بنحوه الهيثمي في مجمع الزوائد ١ / ٨٠.