الثاني : لتحققه عبر عنه بالماضي كقوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١٠] وقال أبو مسلم : إنّ الله تعالى يتكلم بهذه السورة يوم القيامة تعبيرا للكفار وهم في ذلك الوقت قد تقدّمت منهم زيارة القبور. وقال مقاتل والكلبي : نزلت في حيين من قريش بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا أيهم أكثر عددا فكثرهم بنو عبد مناف ، وقالت بنو سهم : إنّ البغي أهلكنا في الجاهلية فعادّونا بالأحياء والأموات فكثرهم بنو سهم بثلاثة أبيات ، لأنهم كانوا في الجاهلية أكثر عددا ، والمعنى : أنكم تكاثرتم بالأحياء حتى استوعبتم عددهم ثم صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات عبر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة القبور تهكما بهم ، وإنما حذف الملهى عنه وهو ما يعنيهم من أمر الدين للتعظيم والمبالغة.
وقال قتادة في اليهود : قالوا نحن أكثر من بني فلان وبنو فلان أكثر من بني فلان ، شغلهم ذلك حتى ماتوا ضلالا ، أو أنهم كانوا يزورون المقابر فيقولون : هذا قبر فلان ، وهذا قبر فلان عند تفاخرهم ، والمعنى : ألهاكم ذلك وهو مما لا يعينكم ولا يجدي عنكم في دنياكم وآخرتكم عما يعينكم من أمر الدين الذي هو أهمّ وأعنى من كل مهمّ من المقابر ، والمقابر : جمع مقبرة بفتح الباء وضمها ، ويسمى سعيد المقبري لأنه كان يسكن المقابر. قال القرطبي : لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلا في هذه السورة ، واعترضه ابن عادل : بأنّ الله تعالى قال في سورة أخرى : (ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ) [عبس : ٢١] وهذا ممنوع فإنه قال المقابر ، فلفظ هذه الآية غير لفظ تلك. وزيارة القبور من أعظم الأدوية للقلب القاسي لأنها تذكر الموت والآخرة ، وذلك يحمل على قصر الأمل والزهد في الدنيا وترك الرغبة فيها قال صلىاللهعليهوسلم : «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة» (١). وروى أبو هريرة أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لعن زوّارات القبور» (٢). فتكره لهنّ لقلة صبرهنّ وكثرة جزعهنّ نعم زيارة النبيّ صلىاللهعليهوسلم سنة لهنّ ويلحق به بقية الأنبياء والعلماء ، وينبغي لمن زار القبور أن يتأدّب بآدابها ويحضر قلبه في إتيانها ، ولا يكون حظه منها الطواف عليها فقط فإنّ هذه حالة يشاركه فيها البهائم ، بل يقصد بزيارته وجه الله تعالى وإصلاح فساد قلبه ، ونفع الميت بما يتلوه عنده من القرآن والدعاء ، ويتجنب الجلوس عليها.
ويسلم إذا دخل المقابر فيقول : «السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» (٣). وإذا وصل إلى قبر ميته الذي يعرفه سلم عليه أيضا ، وأتاه من قبل وجهه لأنه في زيارته كمخاطبه حيا ، ثم يعتبر بمن صار تحت التراب ، وانقطع عن الأهل والأحباب ، ويتأمّل حال من مضى من إخوانه كيف انقطعت آمالهم ولم تغن عنهم أموالهم ، ومجيء التراب على محاسنهم ووجوههم ، وافترقت في التراب أجزاؤهم ، وترمل من بعدهم نساؤهم ، وشمل ذل اليتم أولادهم
__________________
(١) أخرجه ابن ماجه في الجنائز حديث ١٥٧١.
(٢) أخرجه الترمذي في الجنائز حديث ١٠٥٦.
(٣) هو من حديث رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقد روي بطرق وأسانيد متعددة ، أخرجه مسلم في الطهارة حديث ٣٩ ، والجنائز حديث ١٠٣ ، ١٠٤ ، وأبو داود في الجنائز باب ٧٩ ، والنسائي في الطهارة باب ١٠٩ ، والجنائز باب ١٠٣ ، وابن ماجه في الجنائز باب ٣٦ ، والزهد باب ٣٦ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٠٠ ، ٣٧٥ ، ٤٠٨ ، ٥ / ٣٥٣ ، ٣٦٠ ، ٦ / ٧١ ، ٧٦ ، ١١١ ، ١٨٠ ، ٢٢١.