(رَجْعٌ) أي : ردّ إلى ما كنا عليه (بَعِيدٌ) جدّا لأنه لا يمكن تمييز ترابنا من بقية التراب وقرأ قالون وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية وهي المكسورة وإدخال ألف بينها وبين الهمزة الأولى المفتوحة وقرأ ورش وابن كثير بتسهيل الثانية من غير إدخال وقرأ الباقون بتحقيقهما وأدخل هشام بينهما ألفا بخلاف عنه والباقون بغير إدخال وكسر الميم من متنا نافع وحفص وحمزة والكسائي والباقون بالضم.
وقوله تعالى : (قَدْ عَلِمْنا) أي : بما لنا من العظمة (ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) أي : تأكل من أجزائهم المتحللة من أبدانهم بعد الموت. وقبله رد لاستبعادهم لأنّ من لطف علمه حتى تغلغل إلى ما تنقص الأرض من أجزاء الموتى وتأكله من لحومهم وعظامهم كان قادرا على رجعهم أحياء كما كانوا وعنه عليه الصلاة والسلام «كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب» (١) وعن السدّي ما تنقص الأرض منهم من يموت منهم ومن يبقى. وهذه الآية تدل على جواز البعث وقدرته تعالى عليه لأنّ الله تعالى عالم بأجزاء كل واحد من الموتى لا يشتبه عليه جزء واحد بجزء الآخر قادر على الجمع والتأليف فليس الرجع منه ببعيد وهذا كقوله تعالى : (وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) [يس : ٨١] حيث جعل للعلم مدخلا في الإعادة وهذا جواب ما كانوا يقولون أئذا ضللنا في الأرض أي أنه تعالى كما يعلم أجزاءهم يعلم أعمالهم فيرجعهم ويعيدهم بما كانوا يقولون وبما كانوا يعملون (وَعِنْدَنا) أي : على ما لنا من الغنى عن كل شيء (كِتابٌ) أي : جامع لكل شيء (حَفِيظٌ) أي بالغ في الحفظ لا يشذ عنه شيء من الأشياء جل أو دق وقيل محفوظ من الشياطين ومن أن يندرس أو يغير وعلى الحالين الحفيظ هو اللوح المحفوظ. قال الرازي : والأوّل هو الأصح لأنّ الحفيظ بمعنى الحافظ وارد في القرآن قال الله تعالى : (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) [الأنعام : ١٠٤] وقال تعالى (حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) [الشورى : ٦] ولأن الكتاب للتمثيل ومعناه العلم عندي كما يكون في الكتاب فهو يحفظ الأشياء وهو مستغن عن أن يحفظ.
وقوله تعالى : (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ) أي : الأمر الثابت الذي لا أثبت منه إضراب ثان قال الزمخشري : إضراب أتبع للإضراب الأوّل للدّلالة على أنهم جاؤوا بما هو أفظع من تعجبهم وهو التكذيب بالحقّ (لَمَّا) أي : حين (جاءَهُمْ) أي : لما ثار عندهم من أجل تعجبهم من إرسال رسولهم من حظوظ النفوس حسدا منهم من غير تأمّل لما قالوه ولا تدبر ولا نظر فيه ولا تذكر فلذلك قالوا ما لا يعقل من أنّ من قدر على إيجاد شيء من العدم وإبدائه لا يقدر على إعادته بعد إعدامه له (فَهُمْ) أي : لأجل مبادرتهم إلى هذا القول السفساف (فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أي : مضطرب جدّا مختلط من المرج الذي هو اختلاط النبت بالأنواع المختلفة فهم تارة يقولون سحر وتارة كهانة وتارة شعر وتارة كذب وتارة غير ذلك ، لا يثبتون على شيء واحد. والاضطراب موجب للاختلاف وذلك أدل دليل على الإبطال كما أنّ الثبات والخلوص موجب للاتفاق وذلك أدل دليل على الحقية قال الحسن : ما ترك قوم الحق إلا مرج أمرهم. وكذا قال قتادة وزاد والتبس عليهم دينهم.
__________________
(١) أخرجه البخاري في تفسير القرآن حديث ٤٨١٤ ، ومسلم في الفتن حديث ٢٩٥٥ ، وأبو داود في السنة حديث ٤٧٤٣ ، والنسائي في الجنائز حديث ٢٠٧٧ ، ومالك في الجنائز حديث ٤٩ ، وأحمد في المسند ٣ / ٢٨.