وقال قوم : الزمان أربعة أقسام شتاء وربيع وصيف وخريف ، وقيل : شتاء وصيف وقيظ وخريف. قال القرطبي : الذي قاله مالك أصح لأنّ الله تعالى قسم الزمان قسمين ، ولم يجعل لهما ثالثا ، وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنهم كانوا يشتون بمكة ويصيفون بالطائف ، وقال آخرون : كانت لهم رحلتان في كل عام للتجارة إحداهما : في الشتاء إلى اليمن لأنها أدفأ ، والأخرى في الصيف إلى الشام ، وكان الحرم واديا جدبا لا زرع فيه ولا ضرع ، وكانت قريش تعيش بتجارتهم ورحلتهم ولو لا الرحلتان لم يكن لهم مقام بمكة ، ولو لا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرف ، وأول من سنّ لهم الرحلة هاشم بن عبد مناف ، وكانوا يقسمون ربحهم بين الغني والفقير حتى كان فقيرهم كغنيهم ، وفي ذلك يقول الشاعر (١) :
قل للذي طلب السماحة والندى |
|
هلا مررت بآل عبد مناف |
هلا مررت بهم تريد قراهم |
|
منعوك من ضر ومن اتلاف |
الرائشين وليس يوجد رائش |
|
والقائلين هلم للأضياف |
والخالطين فقيرهم بغنيهم |
|
حتى يكون فقيرهم كالكافي |
والقائلين بكل وعد صادق |
|
والراحلين برحلة الإيلاف |
عمرو العلا هشم الثريد لقومه |
|
ورجال مكة مسنتون عجاف |
سفرين سنهما له ولقومه |
|
سفر الشتاء ورحلة الأصياف |
وتبع هاشما على ذلك إخوته فكان هاشم يؤالف إلى الشام ، وعبد شمس إلى الحبشة ، والمطلب إلى اليمن ، ونوفل إلى فارس ، وكان تجار قريش يختلفون إلى هذه الأمصار بجاه هذه الإخوة ، أي : بعهودهم التي أخذوها بالأمان لهم من ملك كل ناحية من هذه النواحي.
ولما كان هذا التدبير لهم من الله تعالى كافيا لهمومهم الظاهرة بالغنى والباطنة بالأمن ، وكان شكر المنعم واجبا ، قال تعالى : (فَلْيَعْبُدُوا) أي : قريش على سبيل الوجوب شكرا على هذه النعمة خاصة إن لم يشكروه على جميع نعمه التي لا تحصى ، لأنهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان وأبعدهم عن الكفران (رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) أي : الموجد له والمحسن إلى أهله بحفظه من كل طاغ ، وبإذلال الجبابرة له ليكمل إحسانه إليهم ، وعطفه عليهم بإكمال إعزازه لهم في الدنيا والآخرة ، والمراد به الكعبة عبر عنها بالإشارة تعظيما لشأنها.
ثم وصف نفسه الأقدس بما هو ثمرة الرحلتين ومظهر لزيادة شرف البيت بقوله تعالى : (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ) أي : قريشا بحمل الميرة إلى مكة بالرحلتين إطعاما مبتدأ (مِنْ جُوعٍ) أي : عظيم فيه غيرهم من العرب ، أو كانوا هم فيه قبل ذلك ؛ لأنّ بلدهم ليس بذي زرع فهم عرضة للفقر الذي ينشأ عنه الجوع فكفاهم ذلك وحده ، ولم يشركه أحد في كفايتهم فليس من الشكر إشراكهم غيره
__________________
(١) الأبيات من الكامل ، والبيت الثالث بلا نسبة في لسان العرب (ريش) ، وتاج العروس (ريش) ، ويروى البيت الخامس بلفظ :
المنعمين إذا النجوم تغيرت |
|
والظاعنين لرحلة الإيلاف |
وهو لمطرود بن كعب الخزاعي في لسان العرب (رجف).