جعله رطبا ليدلّ على التدخين الذي هو زيادة في الشرّ. وقال سعيد بن جبير : حمالة الخطايا والذنوب من قولهم : فلان يحتطب على ظهره قال تعالى : (يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) [الأنعام : ٣١] وقرأ عاصم بنصب التاء من حمالة على الشتم ، قال الزمخشري : وأنا أستحب هذه القراءة ، وقد توسل إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم من أحب شتم أمّ جميل ا ه. والباقون برفعها على أنها صفة امرأته فإنها مرفوعة باتفاق إما بالعطف على الضمير في سيصلى كما مرّ ، ويكون قوله تعالى : (فِي جِيدِها حَبْلٌ) حالا من امرأته ، أو على الابتداء ففي جيدها حبل هو الخبر وحبل فاعل به ، ويجوز أن يكون في جيدها خبرا مقدّما وحبل مبتدأ مؤخرا ، والجملة حالية أو خبر ثان. والجيد العنق ويجمع على أجياد.
وقوله تعالى : (مِنْ مَسَدٍ) صفة لحبل والمسد ليف المقل ، وقيل : الليف مطلقا ، وقال أبو عبيد : هو حبل يكون من صوف ، وقال الحسن : هي حبال من شجر ينبت باليمن يسمى المسد ، وكانت تفتله. وقال الضحاك وغيره : هذا في الدنيا وكانت تعير النبيّ صلىاللهعليهوسلم بالفقر وهي تحتطب في حبل تجعله في جيدها من ليف فخنقها الله عزوجل به فأهلكها ، وهو في الآخرة حبل من نار. فإن قيل : إن كان ذلك حبلها فكيف يبقى في النار؟ أجيب : بأنّ الله تعالى قادر على تجدده كلما احترق كما يبقي اللحم والعظم أبدا في النار. وعن ابن عباس قال : هو سلسلة ذرعها سبعون ذراعا تدخل فيها وتخرج من أسفلها ، ويلوي سائرها على عنقها.
وقال قتادة : هو قلادة من ودع. وقال الحسن : إنما كان خرزا في عنقها. وقال سعيد ابن المسيب : كانت لها قلادة فاخرة من جوهر فقالت : واللات والعزى لأنفقنها في عداوة محمد ، ويكون ذلك عذابا في جيدها يوم القيامة. وقيل : إنّ ذلك إشارة إلى الخذلان يعني أنها مربوطة عن الإيمان لما سبق لها من الشقاء كالمربوط في جيده بحبل من مسد والمسد الفتل ، يقال : مسد حبله يمسده مسدا ، أي : أجاد فتله والجمع أمساد. وروي أنها لما سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر ، وفي يدها فهر من حجارة تريد أن ترميه به فلما وقفت عليه أخذ الله تعالى بصرها عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم فلا ترى إلا أبا بكر ، فقالت : يا أبا بكر أين صاحبك قد بلغني أنه يهجوني ، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه ، والله إني لشاعرة (١) :
مذمما عصينا |
|
وأمره أبينا |
ودينه قلينا |
ثم انصرفت ، فقال أبو بكر : يا رسول الله أما ترى ما رأتك قال صلىاللهعليهوسلم : «ما رأتني لقد أخذ الله تعالى بصرها عني» وكانت قريش إنما تسمي محمدا صلىاللهعليهوسلم مذمما ثم يسبونه ، وكان صلىاللهعليهوسلم يقول : «ألا تعجبوا لما صرف الله تعالى عني من أذى قريش يهجون مذمما وأنا محمدا» (٢). انظر كيف كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يحمل هذا الأذى ويحلم عليهم فينبغي لغيره أن يكون له به أسوة قال الله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب : ٢١].
__________________
(١) الرجز لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.
(٢) انظر السيرة النبوية لابن هشام ٢ / ٢٠١.