وفي الثانية لم يوجد هنا معنيان مجتمعان حتى تذكر الواو فإن الفاء في قوله تعالى : (فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ) لا تناسب قوله تعالى : (قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) فليس هناك مناسبة مقتضية للعطف.
فإن قيل : كيف قال ما أطغيته مع أنه قال لأغوينهم أجمعين. أجيب : بأن المراد من قوله لأغوينهم أي لأديمنهم على الغواية كما أن الضال إذا قال له شخص أنت على الجادة فلا تتركها يقال إنه يضله كذا هنا فقوله ما أطغيته أي ما كان ابتداء الغي مني.
وقوله تعالى : (قالَ) أي : الله تعالى المحيط علما وقدرة الذي حكم عليهم بذلك في الأزل (لا تَخْتَصِمُوا) أي : لا توقعوا الخصومة بهذا الجدّ والاجتهاد استئناف كأنّ قائلا يقول فماذا قال الله تعالى. فأجيب : ب (قالَ لا تَخْتَصِمُوا) وقوله تعالى : (لَدَيَ) أي في دار الجزاء بهذه الحضرة التي هي فوق ما كنتم تدركونه من الأخبار عنها بكثير يفيد مفهومه أن الاختصام كان ينبغي أن يكون قبل الحضور والوقوف بين يديّ. وقوله تعالى : (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) أي : التهديد وهو التخويف العظيم على جميع ما ارتكبتموه من الكفر والعدوان جملة حالية ولا بدّ من تأويلها وذلك أن النهي في الآخرة وتقدّمه الوعيد في الدنيا. فاختلف الزمان فكيف يصح جعلها حالية وتأويلها هو أن المعنى وقد صح أني قدّمت وزمان الصحة وزمان النهي واحد وقدّمت يجوز أن يكون بمعنى تقدمت فتكون الواو للحال ولا بدّ من حذف مضاف أي : وقد تقدّم قولي لكم ملتبسا بالوعيد ويجوز أن يكون قدمت على حاله متعديا والباء مزيدة في المفعول أي قدمت إليكم الوعيد. كقوله تعالى : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون : ٢] على قول من قال بزيادتها هناك وقيل الباء هنا للمصاحبة كقولك اشتريت الفرس بلجامه أي معه فكأنه قال تعالى قدّمت إليكم ما يجب مع الوعيد على تركه والإنذار.
(ما يُبَدَّلُ) أي : يغير بوجه من الوجوه (الْقَوْلُ لَدَيَ) أي : الواصل إليكم من حضرتي التي لا يحيط بها أحد من خلقي وعبر بما التي هي للحاضر دون لا التي للمستقبل لأن الأوقات كلها عنده حاضرة (وَما أَنَا) وأكد النفي بقوله تعالى : (بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فأعذبهم بغير ظلم.
فإن قيل : الظلام مبالغة في الظلم ويلزم من انتفائه إثبات أصل الظلم فإذا قال القائل هو كذاب يلزم أن يكون كثير الكذب ، ولا يلزم من نفيه نفي أصل الكذب ، لجواز أن يقال ليس بكذاب كثير الكذب لكنه يكذب أحيانا. فقوله تعالى (ما أَنَا بِظَلَّامٍ) لا يفهم منه نفي أصل الظلم وأنّ الله ليس بظالم. أجيب بأربعة أجوبة (١) :
أحدها : أنّ الظلام بمعنى الظالم كالتمار بمعنى التامر فتكون اللام في قوله تعالى (لِلْعَبِيدِ) لتحقيق النسبة لأن الفعال حينئذ بمعنى ذي ظلم لقوله تعالى : (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) [غافر : ١٧].
ثانيها : قال الزمخشري : إن ذلك أمر تقديري كأنه تعالى يقول لو ظلمت عبدي الضعيف الذي هو محل الرحمة لكان ذلك غاية الظلم وما أنا بذلك فيلزم من نفي كونه ظلاما نفي كونه ظالما ويحقق هذا الوجه إظهار لفظ العبيد حيث قال الله تعالى : (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي : في ذلك اليوم الذي أملأ فيه جهنم مع سعتها حتى تصيح وتقول لم يبق فيّ طاقة بهم ولم يبق فيّ موضع لهم فهل من مزيد استفهام استنكار.
__________________
(١) ذكر المؤلف ثلاثة أجوبة فقط ، فتنبه.