«الجنة» (١) ولأبي هريرة رضي الله عنه نحوه ولا يظلم الله تعالى من خلقه أحدا.
تنبيه : هذا الحديث من مشاهير أحاديث الصفات وللعلماء فيه وفي أمثاله مذهبان :
أحدهما : وهو مذهب جمهور السلف وطائفة من المتكلمين أنه لا يتكلم في تأويلها بل نفوّض بأنها حق على ما أراد الله ورسوله ونجريها على ظاهرها أولها معنّى يليق بها وظاهرها غير مراد.
المذهب الثاني : وهو قول جمهور المتكلمين أنها تؤوّل بحسب ما يليق بها فعلى هذا اختلفوا في تأويل الحديث فقيل المراد بالقدم التقدّم وهو شائع في اللغة والمعنى يضع الله تعالى فيها من قدمه لها من أهل العذاب. وقيل : المراد به قدم بعض المخلوقين فيعود الضمير في قدمه إلى ذلك المخلوق المعلوم. وقيل : يحتمل أن في المخلوقات من يسمى بهذه التسمية وخلقوا لها. قال القاضي عياض أظهر التأويلات أنهم استحقوها وخلقوا لها.
قال المتكلمون : ولا بدّ من صرفه عن ظاهره لقيام الدليل العقلي القطعي على استحالة الجارحة على الله تعالى وقولها قط قط أي حسبي حسبي قد اكتفيت وفيها ثلاث لغات إسكان الطاء وكسرها منوّنة وغير منوّنة.
ولما ذكر النار التي هي دار الفجار وقدّمها لأنّ المقام للإنذار أتبعها دار الأبرار. فقال تعالى سارّا لهم بإسقاط مؤونة المسير وطي مشقة البعد : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ) أي : قربت بأيسر أمر مع الدرجات والحياض الممتلئة (لِلْمُتَّقِينَ) أي : الغريقين في هذا الوصف فإذا رأوها تسابقوا إليها وتركوا ما كانوا فيه في الموقف من منابر النور وكثبان المسك ونحو هذا. وأما غيرهم من أهل الإيمان فقد يكون لهم غير هذا الوصف فيساق إليها الذين اتقوا كما مضى في الزمر. وقوله تعالى : (غَيْرَ بَعِيدٍ) يجوز أن يكون حالا من الجنة ولم يؤنث لأنها بمعنى البستان أو لأنّ فعيلا لا يؤنث لأنه بزنة المصادر قاله الزمخشري. ومنعه أبو حيان وتقدّم الكلام على ذلك في قوله تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦] ويجوز أن يكون منصوبا على الظرف المكاني أي مكانا غير بعيد ويجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف أي إزلافا غير بعيد وهو ظاهر عبارة الزمخشري فإنه قال أو شيئا غير بعيد فإن قيل : ما وجه التقريب والجنة مكان والأمكنة يقرب منها وهي لا تقرب. أجيب : من أوجه. أوّلها : أنّ الجنة لا تزال ولا يؤمر المؤمن في ذلك اليوم بالانتقال إليها مع بعدها لكن الله تعالى يطوي المسافة التي بين المؤمن والجنة فهو التقريب.
فإن قيل : فعلى هذا ليس إزلاف الجنة من المؤمن بأولى من إزلاف المؤمن من الجنة فما فائدة قوله تعالى : (أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ) أجيب بأن ذلك إكرام للمؤمن وبيان لشرفه وأنه ممن يمشي إليه ثانيها : قريب من الحصول في الدخول لا بمعنى القرب المكاني. ثالثها : أنّ الله تعالى قادر على نقل الجنة من السماء إلى الأرض فيقربها للمؤمن. ويحتمل أنها أزلفت بمعنى جمعت محاسنها لأنها مخلوقة وأما بمعنى قرب الحصول لها لأنها تنال بكلمة طيبة وحسنة وخص المتقين بذلك لأنهم أحق بها.
وقوله تعالى : (هذا) أي : الإزلاف والذي ترونه من كل ما يسركم (ما) أي : الأمر الذي
__________________
(١) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٢٨٤٨ والترمذي حديث ٣٢٧٢ ، وأحمد في المسند ٣ / ٢٣٤.