والمعنى أن الشياطين منعت من سماع أحاديث الملائكة. وقرأ حفص وعاصم وحمزة يسمعون بتشديد السين والميم ، ووزنه يتفعلون والسمع طلب السماع ، فنفى السماع على القراءة الأولى ، ونفى طلبه على القراءة بالتشديد ، والأول أرجح لقوله (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) [الشعراء : ٢١٢] ولأن ظاهر الأحاديث أنهم يستمعون ، لكنهم لا يسمعون شيئا ، منذ بعث محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ؛ لأنهم يرجمون بالكواكب (وَيُقْذَفُونَ) أي يرجمون يعني بالكواكب (١) وهي التي يراها الناس تنقضّ ، قال النقاش ومكي : ليست الكواكب الراجمة للشياطين بالكواكب الجارية في السماء ؛ لأن تلك لا ترى حركتها وهذه الراجمة ترى حركتها لقربها منا. قال ابن عطية : وفي هذا نظر (دُحُوراً) أي طردا وإبعادا وإهانة ؛ لأن الدحر الدفع بعنف. وإعرابه مفعول من أجله أو مصدر من يقذفون على المعنى أو مصدر في موضع الحال تقديره : مدحورين (عَذابٌ واصِبٌ) أي دائم ، لأنهم يرجمون بالنجوم في الدنيا ، ثم يقذفون في جهنم ، (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) من في وضع رفع بدل من الضمير في قوله : لا يسمعون والمعنى لا تسمع الشياطين أخبار السماء إلا الشيطان الذي خطف الخطفة (شِهابٌ ثاقِبٌ) أي شديد الإضاءة.
(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا) الضمير لكفار قريش ، والاستفتاء نوع من السؤال ، وكأنه سؤال من يعتبر قوله ويجعل حجة ؛ لأن جوابهم عن السؤال مما تقوم به الحجة عليهم ومن خلقنا يراد به ما تقدم ذكره من الملائكة والسموات والأرض والمشارق والكواكب ، وقيل : يراد به ما تقدم من الأمم والأول أرجح ؛ لقراءة ابن مسعود أم من عددنا ومقصد الآية : إقامة الحجة عليهم في إنكارهم البعث في الآخرة كأنه يقول : هذه المخلوقات أشد خلقا منكم ، فكما قدرنا على خلقهم كذلك نقدر على إعادتكم بعد فنائكم (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) اللازب اللازم أي يلزم ما جاوره ويلصق به ، ووصفه بذلك يراد به ضعف خلقة بني آدم ، (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) أي عجبت يا محمد من ضلالهم وإعراضهم عن الحق ، أو عجبت من قدرة الله على هذه المخلوقات العظام المذكورة ، وقرأ حمزة والكسائي عجبت بضم التاء وأشكل ذلك على من يقول : إن التعجب مستحيل على الله فتأولوه بمعنى : أنه جعله على حال يتعجب منها الناس وقيل : تقديره قل يا محمد عجبت وقد جاء التعجب من الله في القرآن والحديث كقوله صلىاللهعليهوسلم : «يعجب ربك من شاب ليس له صبوة» (٢) وهو صفة فعل وإنما جعلوه مستحيلا على الله ، لأنهم قالوا إن التعجب استعظام خفي سببه ، والصواب
__________________
(١). المشاهد هو الشهب والنيازك ، وهي أجرام صغيرة متناشرة في الجو ، أما الكواكب فيبعد أن يكون الرجم بها وقد ورد بعد قليل : إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب. والله أعلم.
(٢). أخرج أحمد حديثا بمعناه وأوله : يعجب ربك عزوجل من راعي غنم ج ٤ ، ١٥٧. وعزاه العجلوني للقضاعي عن عقبة بن عامر وفيه ابن لهيعة.