ذلك أنه قال قولا ظاهره الكذب ، وإن كان القصد به معنى آخر ، ويدل على ذلك قوله (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) لأنه أراد به أيضا تبكيتهم وبيان ضلالهم (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ) أي رجعوا إليها بالفكرة والنظر ، أو رجعوا إليها بالملامة (فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) أي الظالمون لأنفسكم ؛ في عبادتكم ما لا ينطق ولا يقدر على شيء أو الظالمون لإبراهيم في قولكم عنه إنه لمن الظالمين ، وفي تعنيفه على أعين الناس (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) استعارة لانقلابهم برجوعهم عن الاعتراف بالحق إلى الباطل والمعاندة فقالوا (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) أي فكيف تأمرنا بسؤالهم فهم قد اعترفوا بأنهم لا ينطقون ، وهم مع ذلك يعبدونهم فهذه غاية الضلال في فعلهم ، وغاية المكابرة والمعاندة في جدالهم ، ويحتمل أن يكون نكسوا على رؤوسهم بمعنى رجوعهم من المجادلة إلى الانقطاع ؛ فإن قولهم : لقد علمت ما هؤلاء ينطقون : اعتراف يلزم منه أنهم مغلوبون بالحجة ، ويحتمل على هذا أن يكون نكسوا على رؤوسهم حقيقة : أي أطرقوا من الخجل لما قامت عليهم الحجة (أُفٍّ لَكُمْ) تقدم الكلام على أف في [الإسراء : ٢٣] (قالُوا حَرِّقُوهُ) لما غلبهم بالحجة رجعوا إلى التغلب عليه بالظلم (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً) أي ذات برد وسلام ، وجاءت العبارة هكذا للمبالغة ، واختلف كيف بردت النار؟ فقيل : أزال الله عنها ما فيها من الحرّ ، والإحراق ، وقيل : دفع عن جسم إبراهيم حرها وإحراقها مع ترك ذلك فيها ، وقيل : خلق بينه وبينها حائلا ، ومعنى السلام هنا السلامة ، وقد روى أنه لو لم يقل : سلاما لهلك إبراهيم من البرد. وقد أضربنا عما ذكره الناس في قصة إبراهيم لعدم صحته ، ولأن ألفاظ القرآن لا تقتضيه.
(إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) هي الشام خرج إليها من العراق ، وبركتها بخصبها وكثرة الأنبياء فيها (نافِلَةً) أي عطية ، والتنفيل العطاء ، وقيل سماه : نافلة ؛ لأنه عطاء بغير سؤال ، فكأنه تبرع ، وقيل : الهبة إسحاق ، والنافلة يعقوب ، لأنه سأل إسحاق بقوله : هب لي من الصالحين فأعطى يعقوب زيادة على ما سأل ، واختار بعضهم على هذا الوقف على إسحاق لبيان المعنى ، وهذا ضعيف لأنه معطوف على كل قول (يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) أي يرشدون الناس بإذننا (وَلُوطاً) قيل : إنه انتصب بفعل مضمر يفسره آتيناه ، والأظهر أنه انتصب بالعطف على موسى وهارون أو إبراهيم وانتصب ونوحا وداود وسليمان وما بعدهم بالعطف أيضا ، وقيل بفعل مضمر تقديره : اذكر (آتَيْناهُ حُكْماً) أي حكما بين الناس : أو