كان حسنا لما مل ، ولو سلّمنا إلى الزمخشرى ما ذهب إليه لكان إنما يوجد ذلك فى الكلام المطول ، ونحن نرى الأمر بخلاف ذلك ، لأنّه قد ورد الانتقال من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة فى مواضع كثيرة من القرآن الكريم ويكون مجموع الجانبين معا يبلغ عشرة ألفاظ أو أقل من ذلك. ومفهوم قول الزمخشرى فى الانتقال من أسلوب إلى أسلوب إنّما يستعمل قصدا للمخالفة بين المنتقل عنه والمنتقل إليه لا قصدا لاستعمال الأحسن. وعلى هذا فاذا وجدنا كلاما قد استعمل فى جميعه الإيجاز ولم ينتقل عنه أو استعمل فيه جميعه الإطناب ولم ينتقل عنه ، وكان كلا الطرفين واقعا فى موقعه قلنا : هذا ليس بحسن إذ لم ينتقل فيه من أسلوب إلى أسلوب وهذا قول فيه ما فيه ، وما أعلم كيف ذهب على مثل الزمخشرى مع معرفته بفن الفصاحة والبلاغة».
ثم يبيّن رأيه بقوله : «والذى عندى فى ذلك أنّ الانتقال من الخطاب إلى الغيبة أو من الغيبة إلى الخطاب ، لا يكون إلّا لفائدة اقتضته ، وتلك الفائدة أمر وراء الانتقال من أسلوب إلى أسلوب ، غير أنها لا تحدّ بحدّ ولا تضبط بضابط ، لكن يشار إلى مواضع منها ليقاس عليها غيرها ، فانا قد رأينا الانتقال من الغيبة إلى الخطاب قد استعمل لتعظيم شأن المخاطب ، ثم رأينا ذلك بعينه وهو ضد الأول قد استعمل فى الانتقال من الخطاب إلى الغيبة ، فعلمنا حينئذ أنّ الغرض الموجب لاستعمال هذا النوع من الكلام لا يجرى على وتيرة واحدة وإنما هو مقصور على العناية بالمعنى المقصود ، وذلك المعنى يتشعب شعبا كثيرة لا تنحصر ، وإنما يؤتى بها على حسب الموضع الذى ترد فيه» (١).
وكانت طريقته فى إظهار روعة أسلوب الالتفات ضرب الأمثلة والتعليق عليها والوقوف على ما فيها من جمال وتأثير. وهذه الطريقة أنفع فى معالجة البلاغة ولكن لا يمنع أن تكون هناك قواعد عامة تهدى ، وقد حصر المتأخرون أسباب الالتفات فى فوائد عامة وخاصة (٢) ، فمن الفوائد العامه التفنن والانتقال من أسلوب إلى آخر ، لما فى ذلك من تنشيط السامع ، واستجلاب
__________________
(١) المثل السائر ج ٢ ص ٤ ـ ٥.
(٢) ينظر البرهان فى علوم القرآن ج ٣ ص ٣٢٥.