وكذلك إيجاب الله الحج على مستطيعه ؛ لما فى ذلك من تكليف المشقّة ؛ ليستحقّ عليها المثوبة ، وليكون أيضا دربة للناس على الطاعة ، وليشتهر به أيضا حال الإسلام ، ويدلّ به على ثباتها واستمرار العمل بها ، فيكون أرسخ له ، وأدعى إلى ضمّ نشر (١) الدين ، وفثء (٢) كيد المشركين. وكذلك نظائر هذا كثيرة جدا. فقد ترى إلى معرفة أسبابه كمعرفة أسباب ما اشتملت عليه علل الإعراب ، فلم جعلت علل الفقه أخفض رتبة من علل النحو؟ قيل له : ما كانت هذه حاله من علل الفقه فأمر لم يستفد من طريق الفقه ، ولا يخصّ حديث الفرض والشرع ، بل هو قائم فى النفوس قبل ورود الشريعة به ؛ ألا ترى أن الجاهلية الجهلاء كانت تحصّن فروج مفارشها ، وإذا شكّ الرجل منهم فى بعض ولده لم يلحقه به ، خلقا قادت إليه الأنفة والطبيعة ، ولم يقتضه نصّ ولا شريعة. وكذلك قول الله تعالى (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ) [التوبة : ٦] قد كان هذا من أظهر شيء معهم ، وأكثره فى استعمالهم ، أعنى حفظهم للجار ، ومدافعتهم عن الذّمار (٣) ، فكأن الشريعة إنما وردت فيما هذه حاله بما كان معلوما معمولا به ، حتى إنها لو لم ترد بإيجابه ، لما أخلّ ذلك بحاله ، لاستمرار الكافّة على فعاله. فما هذه صورته من عللهم جار مجرى علل النحويين. ولكن ليت شعرى من أين يعلم وجه المصلحة فى جعل الفجر ركعتين ، والظهر والعصر أربعا أربعا ، والمغرب ثلاثا ، والعشاء الآخرة أربعا؟ ومن أين يعلم علة ترتيب الأذان على ما هو عليه؟ وكيف تعرف علة تنزيل مناسك الحج على صورتها ، ومطّرد العمل بها؟ ونحو هذا كثير جدّا. ولست تجد شيئا مما علّل به القوم وجوه الإعراب إلا والنفس تقبله ، والحسّ منطو على الاعتراف به ؛ ألا ترى أن عوارض ما يوجد فى هذه اللغة شيء سبق وقت الشرع ، وفزع فى التحاكم فيه إلى بديهة الطبع ؛ فجميع علل النحو إذا مواطئة للطباع ، وعلل الفقه لا ينقاد جميعها هذا الانقياد. فهذا فرق.
__________________
(١) النشر : المنتشر ، يقال : ضم الله نشرك.
(٢) الفثء : الكسر ، ويقال : فثأ الله عنك الشر : كفه. وفى نسخة (فثّ) ، يقال : فثّ الماء الحارّ بالبارد : كسره وسكّنه ، فهو قريب من الأوّل.
(٣) الذمار ـ بزنة كتاب ـ : ما لزمك حفظه مما يتعلق بك.