ومعنا ما يشهد لقوله هذا : شيء غير هذا ، غير أنه ليس ذلك غرضنا هنا ، إنما الغرض إعلامنا أن فى البيت دلالة على صحّة مذهب أبى الحسن هذا. فهذا وجه صحيح يمكن أن يستنبط من بيت ضيغم الذى أنشدناه.
وفيه دليل آخر على جواز خلوّ الجملة الجارية خبرا عن المبتدأ من ضمير يعود إليه منها ؛ ألا ترى أن قوله «لم يخفنى الرجل الظلوم» ليس فيه عائد على هو ، وكيف يكون الأمر إلا هكذا ؛ ألا تعلم أن هذا المضمر على شريطة التفسير لا يوصف ولا يؤكّد ولا يعطف عليه ولا يبدل منه ولا يعود عائد ذكر عليه ؛ وذلك لضعفه ؛ من حيث كان مفتقرا إلى تفسيره. وعلى هذا ونحوه عامّة ما يرد عليك من هذا الضرب ؛ ألا ترى أن قول الله عزوجل (اللهُ أَحَدٌ) لا ضمير فيه يعود على (هو) من قبله.
واعلم أن اللفظ قد يرد شيء منه فيجوز جوازا صحيحا أن يستدلّ به على أمر ما ، وأن يستدلّ به على ضدّه البتّة. وذلك نحو سررت بزيد ، ورغبت فى عمرو ، وعجبت من محمد ، وغير ذلك من الأفعال الواصلة بحروف الجرّ.
فأحد ما يدلّ عليه هذا الضرب من القول أنّ الجارّ معتدّ من جملة الفعل الواصل به ؛ ألا ترى أن الباء فى نحو مررت بزيد معاقبة لهمزة النقل فى نحو أمررت زيدا ، وكذلك قولك أخرجته وخرجت به ، وأنزلته ونزلت به. فكما أن همزة أفعل مصوغة فيه ، كائنة من جملته ، فكذلك ما عاقبها من حروف الجرّ ينبغى أن يعتدّ أيضا من جملة الفعل ؛ لمعاقبته ما هو من جملته. فهذا وجه.
والآخر أن يدلّ ذلك على أن حرف الجرّ جار مجرى بعض ما جرّه ؛ ألا ترى أنك تحكم لموضع الجارّ والمجرور بالنصب فيعطف عليه فينصب لذلك ، فتقول : مررت بزيد وعمرا ، وكذلك أيضا لا يفصل بين الجارّ والمجرور ؛ لكونهما فى كثير من المواضع بمنزلة الجزء الواحد. أفلا تراك كيف تقدّر اللفظ الواحد تقديرين مختلفين ، وكل واحد منهما مقبول فى القياس ، متلقى بالبشر والإيناس.
ومن ذلك قول الآخر :