ولا تكاد تجد شيئا من تصحيح نحو مثل هذا فى الياء : لم يأت عنهم فى نحو بائع ، وسائر بيعة ولا سيرة. وإنما شذّ ما شذّ من هذا مما عينه واو لا ياء ؛ نحو الحوكة ، والخونة ، والخول ، والدول (١). وعلّته عندى قرب الألف من الياء وبعدها عن الواو ، فإذا صحّحت نحو الحوكة كان أسهل من تصحيح نحو البيعة. وذلك أن الألف لمّا قربت من الياء أسرع انقلاب الياء إليها ، فكان ذلك أسوغ من انقلاب الواو إليها ؛ لبعد الواو عنها ؛ ألا ترى إلى كثرة قلب الياء ألفا استحسانا لا وجوبا ؛ نحو قولهم فى طئ : طائىّ ، وفى الحيرة : حارىّ ، وقولهم فى حيحيت ، وعيعيت ، وهيهيت : حاحيت ، وعاعيت ، وهاهيت. وقلّما ترى فى الواو مثل هذا.
فإذا كان بين الألف والياء هذه الوصل والقرب ، كان تصحيح نحو بيعة ، وسيرة ، أشقّ عليهم من تصحيح نحو الحوكة والخونة ؛ لبعد الواو من الألف ، وبقدر بعدها عنها ما يقل انقلابها إليها.
ولأجل هذا الذى ذكرناه عندى ما كثر عنهم نحو اجتوروا ، واعتونوا ، واهتوشوا. ولم يأت عنهم من هذا التصحيح شيء فى الياء ؛ ألا تراهم لا يقولون : ابتيعوا ولا استيروا ولا نحو ذلك ، وإن كان فى معنى تبايعوا وتسايروا.
وعلى أنه قد جاء حرف واحد من الياء فى هذا فلم يأت إلا معلا ؛ وهو قولهم : استافوا ، فى معنى تسايفوا ، ولم يقولوا استيفوا ؛ لما ذكرناه من جفاء ترك قلب الياء ألفا فى هذا الموضع الذى قد قويت فيه داعية القلب. وقد ذكرنا هذا فى (كتابنا فى شعر هذيل) بمقتضى الحال فيه.
وإن شذّ الشىء فى الاستعمال وقوى فى القياس كان استعمال ما كثر استعماله أولى ، وإن لم ينته قياسه إلى ما انتهى إليه استعماله.
من ذلك اللغة التميميّة فى (ما) هى أقوى قياسا وإن كانت الحجازيّة أسير استعمالا. وإنما كانت التميميّة أقوى قياسا من حيث كانت عندهم كـ «هل» فى دخلوها على الكلام مباشرة كلّ واحد من صدرى الجملتين : الفعل والمبتدأ ؛ كما أن (هل) كذلك. إلا أنك إذا استعملت أنت شيئا من ذلك فالوجه أن تحمله على
__________________
(١) الدّول : النّبل المتدول. اللسان (دول).