من بعد هذا فرقا ، وإن صغر فى نفسك وقلّ فى تصوّرك وحسّك ، فإنه معنى عند العرب مكين فى أنفسها ، متقدّم فى إيجابه التأثير الظاهر عندها. وهو ما أوردناه وشرطناه : من كون الحركة غير لازمة ، وكون الكلمة فى معنى ما لا بدّ من صحّة حرف لينه ، ومن تخوّفهم التباسه بغيره ؛ فإن العرب ـ فيما أخذناه عنها ، وعرفناه من تصرّف مذاهبها ـ ، عنايتها بمعانيها أقوى من عنايتها بألفاظها. وسنفرد لهذا بابا نتقصّاه فيه بمعونة الله. أو لا تعلم عاجلا إلى أن تصير إلى ذلك الباب آجلا ، أنّ سبب إصلاحها ألفاظها ، وطردها إيّاها على المثل والأحذية التى قنّنتها لها ، وقصرتها عليها ، إنما هو لتحصين المعنى وتشريفه ، والإبانة عنه وتصويره ؛ ألا ترى أن استمرار رفع الفاعل ، ونصب المفعول ، إنما هو للفرق بين الفاعل والمفعول ؛ وهذا الفرق أمر معنوىّ ، أصلح اللفظ له وقيد مقاده الأوفق من أجله.
فقد علم بهذا أن زينة الألفاظ وحليتها لم يقصد بها إلا تحصين المعانى وحياطتها. فالمعنى إذا هو المكرّم المخدوم ، واللفظ هو المتبذل الخادم.
وبعد فإذا جرت العلّة فى معلولها ، واستتبّت على منهجها وأمّها قوى حكمها ، واحتمى جانبها ، ولم يسع أحدا أن يعرض لها إلا بإخراجه شيئا إن قدر على إخراجه منها. فأمّا أن يفصّلها ويقول : بعضها هكذا ، وبعضها هكذا فمردود عليه ، ومرذول عند أهل النظر فيما جاء به. وذلك أن مجموع ما يورده المعتلّ بها هو حدّها ووصفها ، فإذا انقادت وأثّرت وجرت فى معلولاتها فاستمرّت ، لم يبق على بادئها ، وناصب نفسه للمراماة عنها ، بقيّة فيطالب بها ، ولا قصمة سواك فيفكّ يد ذمّته عنها.
فإن قلت : فقد قال الهذلىّ : ... (١).
فقد كنت قلت فى هذه اللفظة فى كتابى فى ديوان هذيل : إنه إنما أعلّت هذه العين هناك ولم تصحّ كما صحّت عين اجتوروا واعتونوا من حيث كان ترك قلب الياء ألفا أثقل عليهم من ترك قلب الواو ألفا ؛ لبعد ما بين الألف والواو ، وقربها
__________________
(١) بيت الهذلى الذى سقط هنا فيما بين أيدينا من الأصول فيه (استاف) فى معنى تسايفوا. ولم أعثر على البيت بعد طول البحث. وسبب ذلك أن شعر الهذليين لم يصلنا كله. (نجار).