من الياء ، وكلّما تدانى الحرفان أسرع انقلاب أحدهما إلى صاحبه ، وانجذابه نحوه ، وإذا تباعدا كانا بالصحّة والظهور قمنا. وهذا ـ لعمرى ـ جواب جرى هناك على مألوف العرف فى تخصيص العلّة. فأمّا هذا الموضع فمظنّة من استمرار المحجّة واحتماء العلّة. وذلك أن يقال : إنّ استاف هنا لا يراد به تسايفوا أى تضاربوا بالسيوف ، فتلزم صحّته كصحّة عين تسايفوا ؛ كما لزمت صحّة اجتوروا لمّا كان فى معنى ما لا بدّ من صحّة عينه ، وهو تجاوروا ؛ بل تكون استافوا هنا : تناولوا سيوفهم وجرّدوها. ثم يعلم من بعد أنهم تضاربوا ؛ مما دلّ عليه قولهم : استافوا ، فكأنه من باب الاكتفاء بالسبب عن المسبّب ؛ كقوله :
ذر الآكلين الماء ظلما فما أرى |
|
ينالون خيرا بعد أكلهم الماء (١) |
يريد قوما كانوا يبيعون الماء فيشترون بثمنه ما يأكلونه ، فاكتفى بذكر الماء الذى هو سبب المأكول من ذكر المأكول.
فأمّا تفسير أهل اللغة أنّ استاف القوم فى معنى تسايفوا فتفسير على المعنى ؛ كعادتهم فى أمثال ذلك ؛ ألا تراهم قالوا فى قول الله عزوجل (مِنْ ماءٍ دافِقٍ) [الطارق : ٦] إنه بمعنى مدفوق ، فهذا ـ لعمرى ـ معناه ، غير أن طريق الصنعة فيه أنه ذو دفق كما حكاه الأصمعىّ عنهم من قولهم : ناقة ضارب إذا ضربت (٢) ، وتفسيره أنها ذات ضرب أى ضربت. وكذلك قوله تعالى : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [هود : ٤٣] أى لا ذا عصمة ، وذو العصمة يكون مفعولا كما يكون فاعلا ، فمن هنا قيل : إن معناه : لا معصوم. وكذلك قوله :
لقد عيّل الأيتام طعنة ناشره |
|
أناشر لا زالت يمينك آشره (٣) |
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة فى لسان العرب (أكل) ، وتاج العروس (أكل).
(٢) أى ضربها الفحل ، وضرب الجمل الناقة يضربها إذا نزا عليها. اللسان (ضرب).
(٣) البيت من الطويل ، وهو لنائحة همّام بن مرّة فى التنبيه والإيضاح ٢ / ٧٨ ، وبلا نسبة فى تهذيب اللغة ٩ / ٢٢١ ، ١١ / ٤١٠ ، وجمهرة اللغة ص ٧٣٤ ، ومجمل اللغة ١ / ١٩٣ ، وتاج العروس (أشر) ، (نشر) ، ولسان العرب (أشر) ، (نشر) ، (وقص) ، (ومق) ، (عبل) ، (ضمن). وأراد : لا زالت يمينك مأشورة أو ذات أشر. يقال : أشرت الخشبة أشرا ووشرتها وشرا إذا شققتها مثل نشرتها نشرا. وذلك أن الشاعر إنما دعا على ناشرة لا له ؛ قال ابن برى : هذا البيت لنائحة همام بن مرة بن ذهل بن شيبان ، وكان قتله ناشرة ، وهو الذى ربّاه ، قتله غدرا ؛ ـ