أوّل الكتاب من لطف الحسّ وصفائه ، ونصاعة جوهر الفكر ونقائه ، لم يؤتوا هذه اللغة الشريفة ، المنقادة الكريمة ، إلا ونفوسهم قابلة لها ، محسّة لقوّة الصنعة فيها ، معترفة بقدر النّعمة عليهم بما وهب لهم منها ؛ ألا ترى إلى قول أبى مهديّة (١) :
يقولون لى : شنبذ ، ولست مشنبذا |
|
طوال الليالى ما أقام ثبير |
ولا قائلا : زوذا ليعجل صاحبى |
|
وبستان فى صدرى علىّ كبير |
|
||
ولا تاركا لحنى لأحسن لحنهم |
|
ولو دار صرف الدهر حيث يدور |
وحدّثنى المتنبى شاعرنا ـ وما عرفته إلا صادقا ـ قال : كنت عند منصرفى من مصر فى جماعة من العرب ، وأحدهم يتحدّث. فذكر فى كلامه فلاة واسعة ، فقال : يحير فيها الطرف ، قال : وآخر منهم يلقّنه سرّا من الجماعة بينه وبينه ، فيقول له : يحار يحار. أفلا ترى إلى هداية بعضهم لبعض ، وتنبيهه إيّاه على الصواب.
وقال عمّار (٢) الكلبىّ ـ وقد عيب عليه بيت من شعره ؛ فامتعض لذلك ـ :
ما ذا لقينا من المستعربين ومن |
|
قياس نحوهم هذا الذى ابتدعوا |
إن قلت قافية بكرا يكون بها |
|
بيت خلاف الذى قاسوه أو ذرعوا |
قالوا لحنت ، وهذا ليس منتصبا |
|
وذاك خفض ، وهذا ليس يرتفع |
وحرّضوا بين عبد الله من حمق |
|
وبين زيد فطال الضرب والوجع |
كم بين قوم قد احتالوا لمنطقهم |
|
وبين قوم على إعرابهم طبعوا |
ما كلّ قولى مشروحا لكم ، فخذوا |
|
ما تعرفون ، وما لم تعرفوا فدعوا |
لأن أرضى أرض لا تشبّ بها |
|
نار المجوس ولا تبنى بها البيع (٣) |
__________________
(١) فى المعرّب للجواليقىّ ص ٩ نسبته لأبى المهدىّ ، وكذا هو فى مجالس ابن حنزابة ونصه : «كان أبو مهدىّ هذا ـ وهو من باهلة ـ يضرب حنكيه يمينا وشمالا ...» ، وكذا هو «أبو مهدى» فى ذيل الأمالى ٣٩. وفى السمط ٢١ أن الصواب : «أبو مهدية» كما فى فهرست ابن النديم ٤٩ والمرزبانى ١٨٥. وهو صاحب قصة فى اللسان (خسا) باسم أبى مهدية. (نجار).
(٢) هذا الشعر فى معجم الأدباء فى ترجمة ابن جنى ١٢ / ١٠٣ ، وفيه : «عمرو» بدل «عمار». (نجار).
(٣) الأول منهم بلا نسبة فى اللسان (عرب) والتاج (عرب).