أفلا ترى إلى اعتباره بمشاهدة الوجوه ، وجعلها دليلا على ما فى النفوس.
وعلى ذلك قالوا : «رب إشارة أبلغ من عبارة» وحكاية الكتاب من هذا الحديث ، وهى قوله : (ألا تا) و (بلى فا). وقال لى بعض مشايخنا رحمهالله : أنا لا أحسن أن أكلّم إنسانا فى الظلمة.
ولهذا الموضع نفسه ما توقّف أبو بكر عن كثير ممّا أسرع إليه أبو إسحاق من ارتكاب طريق الاشتقاق ، واحتجّ أبو بكر عليه بأنه لا يؤمن أن تكون هذه الألفاظ المنقولة إلينا قد كانت لها أسباب لم نشاهدها ، ولم ندر ما حديثها ، ومثّل له بقولهم (رفع عقيرته) إذا رفع صوته. قال له أبو بكر : فلو ذهبنا نشتقّ لقولهم (ع ق ر) من معنى الصوت لبعد الأمر جدّا ؛ وإنما هو أنّ رجلا قطعت إحدى رجليه فرفعها ووضعها على الأخرى ، ثم نادى وصرخ بأعلى صوته ، فقال الناس : رفع عقيرته ، أى رجله المعقورة. قال أبو بكر : فقال أبو إسحاق : لست أدفع هذا.
ولذلك قال سيبويه فى نحو من هذا : أو لأن الأوّل وصل إليه علم لم يصل إلى الآخر ، يعنى ما نحن عليه من مشاهدة الأحوال والأوائل.
فليت شعرى إذا شاهد أبو عمرو وابن أبى إسحاق ، ويونس ، وعيسى بن عمر ، والخليل ، وسيبويه ، وأبو الحسن ، وأبو زيد ، وخلف الأحمر ، والأصمعىّ ، ومن فى الطبقة والوقت من علماء البلدين ، وجوه العرب فيما تتعاطاه من كلامها ، وتقصد له من أغراضها ، ألا تستفيد بتلك المشاهدة وذلك الحضور ما لا تؤدّيه الحكايات ، ولا تضبطه الروايات ، فتضطرّ إلى قصود العرب ، وغوامض ما فى أنفسها ، حتى لو حلف منهم حالف على غرض دلّته عليه إشارة ، لا عبارة ، لكان عند نفسه وعند جميع من يحضر حاله صادقا فيه ، غير متّهم الرأى والنحيزة والعقل.
فهذا حديث ما غاب عنا فلم ينقل إلينا ، وكأنه حاضر معنا ، مناج لنا.
وأمّا ما روى لنا فكثير. منه ما حكى الأصمعىّ عن أبى عمرو قال : سمعت رجلا من اليمن يقول : فلان لغوب ، جاءته كتابى فاحتقرها. فقلت له : أتقول جاءته كتابى! قال : نعم أليس بصحيفة. أفتراك تريد من أبى عمرو وطبقته وقد نظروا ، وتدرّبوا ، وقاسوا ، وتصرّفوا أن يسمعوا أعرابيّا جافيا غفلا ، يعلّل هذا