الوقت وأشجانه ، وتذاؤبه وخلج أشطانه (١) ، ولو لا معازّة الخاطر واعتنافه ، ومساورة الفكر واكتداده ، لكنت عن هذا الشأن بمعزل ، وبأمر سواه على شغل.
وقال لى مرّة رحمهالله تأنيسا بهذه الانتقالات : كما جاز إذا سمّيت بـ (ضرب) أن تخرجه من البناء إلى الإعراب ، كذلك يجوز أيضا أن تخرجه من جنس إلى جنس إذا أنت نقلته من موضعه إلى غيره.
ومن طريف ما ألقاه ـ رضى الله تعالى عنه ـ علىّ أنه سألنى يوما عن قولهم هات لا هاتيت ، فقال (ما هاتيت)؟ فقلت : فاعلت ، فهات من هاتيت ، كعاط من عاطيت ، فقال : أشيء آخر؟ فلم يحضر إذ ذاك ، فقال أنا أرى فيه غير هذا.
فسألته عنه ، فقال : يكون فعليت ، قلت : ممّه؟ قال : من الهوتة ، وهى المنخفض من الأرض ـ قال : وكذلك (هيت) لهذا البلد (٢) ، لأنه منخفض من الأرض ـ فأصله هوتيت ، ثم أبدلت الواو التى هى عين فعليت ، وإن كانت ساكنة ؛ كما أبدلت فى يا جل ، ويا حل ، فصار هاتيت ، وهذا لطيف حسن. على أن صاحب العين قد قال : إن الهاء فيه بدل من همزة ، كهرقت ونحوه. والذى يجمع بين هاتيت وبين الهوتة حتى دعا ذلك أبا علىّ إلى ما قال به ، أن الأرض المنخفضة تجذب إلى نفسها بانخفاضها. وكذلك قولك : هات ، إنما هو استدعاء منك للشيء ، واجتذابه إليك. وكذلك صاحب العين إنما حمله على اعتقاد بدل الهاء من الهمزة أنه أخذه من أتيت الشىء ، والإتيان ضرب من الانجذاب إلى الشىء. والذى ذهب إليه أبو علىّ فى (هاتيت) غريب لطيف.
ومما يستحيل فيه التقدير لانتقاله من صورة إلى أخرى قولهم (هلممت) إذا قلت : هلمّ. فهلممت الآن كصعررت ، وشمللت ، وأصله قبل غير هذا ، إنما هو أوّل (ها) للتنبيه لحقت مثال الأمر للمواجه توكيدا. وأصلها ها لم ، فكثر استعمالها ، وخلطت (ها) بـ (لم) ، توكيدا للمعنى لشدّة الاتصال ، فحذفت الألف لذلك ، ولأن لام (لم) فى الأصل ساكنة ، ألا ترى أن تقديرها أوّل (المم) وكذلك يقولها أهل الحجاز ، ثم زال هذا كلّه بقولهم (هلممت) فصارت كأنها
__________________
(١) الأشطان : جمع شطن وهو الحبل. وخلج أشطانه : فساد أسبابه.
(٢) هو بلد على شاطئ الفرات ، وعلى هذا فالياء فى هيت أصلها الواو.