والحق الذى يجاب به عن هذا الأمر هو أن نعلم أن واضع اللغة لم يضع هذه الألفاظ اعتباطا وإلا فما حاجتهم لأن يضعوا لمعنى واحد كالجمل أو الفرس أو السيف مئات الأسماء إلا أن يكون ذلك بحسب تعدد السياقات فيكون لكل معنى لفظه المناسب الذى لا يسد فيه غيره مسده ؛ ومن ثم لا يكون هناك تناقض فى كلام عبد القاهر لأن مؤدى كلامه هو منع الترادف التام فى لغة العرب وهذا هو الحق ؛ ومن ثم لا يتصور ـ كما يقرر عبد القاهر ـ الاسمين الموضوعين لشيء واحد أن يكون أحدهما أحسن نبأ عنه وأبين عن صورته من الآخر.
فهما وإن اشتركا فى الدلالة على أصل المعنى أو المعنى الجملى ؛ فإن لكل منهما من المعانى التفصيلية الخاصة ما يفرقه عن الآخر ويجعله صالحا لسياقات لا يصلح لها اللفظ الآخر ومن ثم فصعوبة اللفظ أو ثقله ليس أمرا ينافى فصاحته لأنه قد يوافق السياق ويطابق المقام بتلك الصعوبة وذلك الثقل ، وإلا للزم قائل هذا أن يقول بعدم فصاحة الكتاب العزيز لاشتماله على كثير مما وصف أمثاله بأنه ثقيل أو صعب فى نطقه كقوله تعالى : «اثاقلتم ـ أنلزمكموها ـ فسيكفيكهم. وأشباه».
ومع ذلك فهذه الألفاظ فى سياقاتها فى درجة عالية من الفصاحة مع أنها ثقيلة صعبة فى نفسها ، وعليه فلا تلازم بين صعوبة الكلمة فى النطق أو ثقلها أو غير ذلك مما ذكره البلاغيون من صفات اللفظة المفردة وبين فصاحتها فى سياق من السياقات. على أن الذى يهمنا من ذلك هو أن تكون الكلمة عربية أصيلة كما قال السكاكى «وعلامة ذلك أن تكون على ألسنة الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم أدور واستعمالهم لها أكثر لا مما أحدثها المولدون ولا مما أخطأت فيه العامة» (١).
والدليل على ما ذكره من أنه لا تلازم بين صعوبة الكلمة أو ثقل جرسها أو غرابتها ـ أو غير ذلك ـ وعدم فصاحتها أننا لو تصورنا على سبيل المثال استبدال كلمة «أنلزمكموها» بأخرى ترادفها ، فى قوله تعالى على لسان نوح ـ عليهالسلام ـ مخاطبا قومه حينما أعرضوا عن دعوته قائلين : (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ. قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ
__________________
(١) السكاكى ، مفتاح العلوم ص ٢٢١.