قولهم لمن سدّد سهما ثم أرسله نحو الغرض فسمعت صوتا فقلت : القرطاس والله أى أصاب القرطاس : لا يجوز توكيد الفعل الذى نصب (القرطاس). لو قلت : إصابة القرطاس ، فجعلت (إصابة) مصدرا للفعل الناصب للقرطاس لم يجز ؛ من قبل أن الفعل هنا قد حذفته العرب وجعلت الحال المشاهدة دالّة عليه ، ونائبة عنه ، فلو أكّدته لنقضت الغرض ؛ لأن فى توكيده تثبيتا للفظه المختزل ، ورجوعا عن المعتزم من حذفه واطّراحه والاكتفاء بغيره منه. وكذلك قولك للمهوى بالسيف فى يده : زيدا ، أى اضرب زيدا لم يجز أن تؤكّد ذلك الفعل الناصب لزيد ؛ ألا تراك لا تقول : ضربا زيدا وأنت تجعل (ضربا) توكيدا لا ضرب المقدّرة ؛ من قبل أن تلك اللفظة قد أنيبت عنها الحال الدالّة عليها ، وحذفت هى اختصارا ، فلو أكّدتها لنقضت القضيّة التى كنت حكمت بها لها ، لكن لك أن تقول : ضربا زيدا لا على أن تجعل ضربا توكيدا للفعل الناصب لزيد ، بل على أن تبدله منه فتقيمه مقامه فتنصب به زيدا ، فأمّا على التوكيد به لفعله وأن يكون زيد منصوبا بالفعل الذى هذا توكيد له فلا.
فهذه الأشياء لو لا ما عرض من صناعة اللفظ ـ أعنى الاقتصار على شيء دون شيء ـ لكان توكيدها جائزا حسنا ، لكن (عارض ما منع) فلذلك لم يجز ؛ لا لأن المحذوف ليس فى تقدير الملفوظ به.
ومما يؤكّد لك أن المحذوف للدلالة عليه بمنزلة الملفوط به إنشادهم قول الشاعر :
قاتلى القوم يا خزاع ولا |
|
يأخذكم من قتالهم فشل (١) |
فتمام الوزن أن يقال : فقاتلى القوم ، فلو لا أنّ المحذوف إذا دلّ الدليل عليه بمنزلة المثبت ، لكان هذا كسرا ، لا زحافا. وهذا من أقوى وأعلى ما يحتجّ به لأن المحذوف للدلالة عليه بمنزلة الملفوظ به البتّة ، فاعرفه ، واشدد يدك به.
وعلى الجملة فكلّ ما حذف تخفيفا فلا يجوز توكيده ، لتدافع حاليه به ؛ من حيث التوكيد للإسهاب والإطناب ، والحذف للاختصار والإيجاز. فاعرف ذلك
__________________
(١) البيت من المنسرح وقد دخله الخرم ، ولو قال : (فقاتلى) نجا من ذلك. وقد ذكره أبو رياش كاملا هكذا. وانظر التبريزى فى شرح الحماسة. ونهاية الشطر الأول «لا» وانظر الدمامينى فى الموطن السابق. (نجار).