فأمّا قول من قال : إن قولهم (لهنّك) إن أصله (لله إنك) فقد [تقدّم ذكرنا] ذلك مع ما عليه فيه فى موضع آخر ؛ وعلى أن أبا علىّ قد كان قوّاه بأخرة ، وفيه تعسّف.
ومن إصلاح اللفظ قولهم : كأن زيدا عمرو. اعلم أن أصل هذا الكلام : زيد كعمرو ، ثم أرادوا توكيد الخبر فزادوا فيه (إنّ) فقالوا : إنّ زيدا كعمرو ، ثم إنهم بالغوا فى توكيد التشبيه فقدّموا حرفه إلى أوّل الكلام عناية به ، وإعلاما أن عقد الكلام عليه ؛ فلمّا تقدّمت الكاف وهى جارّة لم يجز أن تباشر (إنّ) لأنها ينقطع عنها ما قبلها من العوامل ، فوجب لذلك فتحها ، فقالوا : كأنّ زيدا عمرو.
ومن ذلك أيضا قولهم : لك مال ، وعليك دين ؛ فالمال والدين هنا مبتدءان ، وما قبلهما خبر عنهما ، إلا أنك لو رمت تقديمهما إلى المكان المقدّر لهما لم يجز ؛ لقبح الابتداء بالنكرة فى الواجب ، فلمّا جفا ذلك فى اللفظ أخّروا المبتدأ وقدّموا الخبر ، وكان ذلك سهلا عليهم ، ومصلحا لما فسد عندهم. وإنّما كان تأخّره مستحسنا من قبل أنه لمّا تأخّر وقع موقع الخبر ، ومن شرط الخبر أن يكون نكرة ، فلذلك صلح به اللفظ ، وإن كنا قد أحطنا علما بأنه فى المعنى مبتدأ. فأمّا من رفع الاسم فى نحو هذا بالظرفيّة ، فقد كفى مئونة هذا الاعتذار ؛ لأنه ليس مبتدأ عنده.
فإن قلت : فقد حكى عن العرب (أمت فى حجر لا فيك) ، وقولهم : (شرّ أهرّ ذا ناب) ، وقولهم : (سلام عليك) قال الله سبحانه وتعالى : (سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) [مريم : ٤٧] ، وقال : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) [المطففين : ١] ونحو ذلك. والمبتدأ فى جميع هذا نكرد مقدّمة.
قيل : أمّا قوله سلام عليك ، وويل له ، وأمت فى حجر لا فيك ، فإنه جاز لأنه ليس فى المعنى خبرا ، إنما هو دعاء ومسألة ، أى ليسلّم الله عليك ، وليلزمه الويل ، وليكن الأمت فى الحجارة لا فيك. والأمت : الانخفاض والارتفاع والاختلاف ؛ قال الله عزوجل : (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٧] أى اختلافا. ومعناه : أبقاك الله بعد فناء الحجارة ، وهى ممّا توصف بالخلود والبقاء ؛ ألا تراه كيف قال :
ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر |
|
تنبو الحوادث عنه وهو ملموم! (١) |
__________________
(١) البيت لابن مقبل فى ديوانه ص ٢٧٣ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٦٦١ ، وبلا نسبة فى لسان