فجعلوا المثال المكرر للمعنى المكرر ـ أعنى باب القلقلة ـ والمثال الذى توالت حركاته للأفعال التى توالت الحركات فيها.
ومن ذلك ـ وهو أصنع منه ـ أنهم جعلوا (استفعل) فى أكثر الأمر للطلب ؛ نحو استسقى ، واستطعم ، واستوهب ، واستمنح ، واستقدم عمرا ، واستصرخ جعفرا. فرتّبت فى هذا الباب الحروف على ترتيب الأفعال. وتفسير ذلك أن الأفعال المحدّث عنها أنها وقعت عن غير طلب إنما تفجأ حروفها الأصول ، أو ما ضارع بالصنعة الأصول.
فالأصول نحو قولهم : طعم ووهب ، ودخل وخرج ، وصعد ونزل. فهذا إخبار بأصول فاجأت عن أفعال وقعت ، ولم يكن معها دلالة تدلّ على طلب لها ولا إعمال فيها. وكذلك ما تقدّمت الزيادة فيه على سمت الأصل ؛ نحو أحسن ، وأكرم ، وأعطى وأولى. فهذا من طريق الصنعة بوزن الأصل فى نحو دحرج ؛ وسرهف ، وقوقى وزوزى. وذلك أنهم جعلوا هذا الكلام عبارات عن هذه المعانى ، فكلّما ازدادت العبارة شبها بالمعنى كانت أدلّ عليه ، وأشهد بالغرض فيه.
فلمّا كانت إذا فاجأت الأفعال فاجأت أصول المثل (١) الدالّة عليها أو ما جرى مجرى أصولها ؛ نحو وهب ، ومنح ، وأكرم ، وأحسن ، كذلك إذا أخبرت بأنك سعيت فيها وتسبّبت لها ، وجب أن تقدّم أمام حروفها الأصول فى مثلها الدالّة عليها أحرفا زائدة على تلك الأصول تكون كالمقدّمة لها ، والمؤدّية إليها.
وذلك نحو استفعل ؛ فجاءت الهمزة والسين والتاء زوائد ، ثم وردت بعدها الأصول : الفاء ، والعين ، واللام. فهذا من اللفظ وفق المعنى الموجود هناك.
وذلك أن الطلب للفعل والتماسه والسعى فيه والتأتى لوقوعه تقدّمه ، ثم وقعت الإجابة إليه ، فتبع الفعل السؤال فيه والتسبّب لوقوعه. فكما تبعت أفعال الإجابة
__________________
(حيد) ، والمخصص ١٥ / ٦٩ ، وديوان الأدب ٣ / ٤١٢ ، وكتاب العين ٦ / ٢٠٣. جمزى : حمار وحشى ، جازئ : يستغنى بالرطب عن الماء. الأصحم : سواد إلى صفرة ، وجراميزه : جسده ونفسه. حزابية : غليظ. والدحال : جمع الدحل ، وهو هوة ضيقة الأعلى واسعة الأسفل.
(١) يقصد بالمثل هنا : الصيغ ، وقد مرّ التنبيه على مثل ذلك فى الجزء الأول فى الكلام عن علل النحاة.