ومنه قول الله تعالى : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) [الزخرف : ٣٩]. طاولت أبا على رحمهالله تعالى فى هذا ، وراجعته فيه عودا على بدء ، فكان أكثر ما برد منه فى اليد أنه لمّا كانت الدار الآخرة تلى الدار الدنيا لا فاصل بينهما ، إنما هى هذه فهذه ، صار ما يقع فى الآخرة كأنه واقع فى الدنيا ، فلذلك أجرى اليوم وهو الآخرة ، مجرى وقت الظلم وهو قوله : «إذ ظلمتم» ووقت الظلم إنّما كان فى الدنيا. فإن لم تفعل هذا وترتكبه بقى «إذ ظلمتم» غير متعلّق بشىء ؛ فيصير ما قاله أبو على إلى أنه كأنه أبدل «إذ ظلمتم» من اليوم ، أو كرّره عليه وهو كأنه هو.
فإن قلت : لم لا تكون «إذ» محمولة على فعل آخر ؛ حتى كأنه قال : ولن ينفعكم اليوم أنكم فى العذاب مشتركون (اذكروا) إذ ظلمتم أو نحو ذلك.
قيل : ذلك يفسد من موضعين : أحدهما اللفظ ، والآخر المعنى. أما اللفظ فلأنك تفصل بالأجنبىّ ـ وهو قوله «إذ ظلمتم» ـ بين الفعل وهو «ينفعكم» وفاعله وهو «أنكم فى العذاب مشتركون» وأنت عالم بما فى الفصل بينهما بالأجنبىّ. وإن كان الفصل بالظرف متجوّزا فيه. وأمّا المعنى فلأنك لو فعلت ذلك لأخرجت من الجملة الظرف الذى هو «إذ ظلمتم» وهذا ينقض معناها. وذلك لأنها معقودة على دخول الظرف الذى هو «إذ» فيها ، ووجوده فى أثنائها ؛ ألا ترى أن عدم انتفاعهم بمشاركة أمثالهم لهم فى العذاب إنما سببه وعلّته ظلمهم ، فإذا كان كذلك كان احتياج الجملة إليه نحوا من احتياجها إلى المفعول له ؛ نحو قولك : قصدتك رغبة فى برّك ، وأتيتك طمعا فى صلتك ؛ ألا ترى أن معناه : أنكم عدمتم سلوة التأسّى بمن شارككم فى العذاب لأجل ظلمكم فيما مضى ؛ كما قيل فى نظيره : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان : ٤٩] أى ذق بما كنت تعدّ فى أهل العز والكرم. وكما قال الله تعالى فى نقيضه : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) [الحاقة : ٢٤] ومن الأوّل قوله : (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) [البقرة : ٦١] ومثله فى الشعر كثير ، منه قول الأعشى :
على أنها إذ رأتنى أقاد |
|
تقول بما قد أراه بصيرا (١) |
__________________
(١) البيت من المتقارب ، وهو للأعشى فى ديوانه ص ١٤٥ ، ولسان العرب (عزز) ، (عمم). ـ (ما) هنا كفت الباء عن الجرّ وأحدثت معها معنى التقليل. فـ (بما) تساوى ربما. انظر المغنى فى مبحث الباء المفردة. وابن جنى هنا لا يرى ، هذا ويرى أنها هنا بمعنى البدل. أى الضعف المشاهد الآن وسوء البصر بدل ما قد مضى من القوة وصحة البصر.