وأقمت بكولم مدة بزاوية الشيخ فخر الدين ابن الشيخ شهاب الدين الكازروني شيخ زاوية قالقوط ، فلم أتعرف للككم خبرا ، وفي أثناء مقامي بها دخل إليها أرسال ملك الصين الذين كانوا معنا ، وكانوا ركبوا في أحد تلك الجنوك فانكسر أيضا فكساهم تجار الصين وعادوا إلى بلادهم ولقيتهم بها بعد.
وارادت أن أعود من كولم إلى السلطان لأعلمه بما اتفق على الهدية (١٣٨) ثم خفت أن يتعقب فعلي ، ويقول : لم فارقت الهدية؟ فعزمت على العودة إلى السلطان جمال الدين الهنّوري وأقيم عنده حتى أتعرف خبر الككم ، فعدت إلى قالقوط ووجدت بها بعض مراكب السلطان ، فبعث فيها أميرا من العرب يعرف بالسيد أبي الحسن وهو من البرد دارية (١٣٩) ، وهم خواص البوابين ، بعثه السلطان بأموال يستجلب بها من قدر عليه من العرب من أرض هرمز والقطيف (١٤٠) لمحبته في العرب ، فتوجهت إلى هذا الامير ورأيته عازما على أن يشتو بقالقوط ، وحينئذ يسافر إلى بلاد العرب فشاورته في العودة إلى السلطان ، فلم يوافق على ذلك! فسافرت في البحر من قالقوط ، وذلك آخر فصل السفر فيه فكنا نسير نصف النهار الأول ثم نرسوا إلى الغد ، ولقّينا في طريقنا أربعة أجفان مخزونة فخفنا منها ثم لم يعرضوا لنا بشرّ!
ووصلنا إلى مدينة هنّور (١٤١) فنزلت إلى السلطان وسلمت عليه فأنزلني بدار ، ولم يكن لي خديم وطلب مني أن أصلّي معه الصلوات ، فكان أكثر جلوسي في مسجده ، وكنت أختم القرآن كلّ يوم ، ثم كنت أختم مرتين في اليوم ، ابتدي القراءة بعد صلاة الصبح فاختم عند الزوال وأجدد الوضوء وأبتدىء القراءة فأختم الختمة الثانية عند الغروب ، ولم أزل كذلك مدة ثلاثة أشهر واعتكفت منها أربعين (١٤٢) يوما.
__________________
(١٣٨) هذا من المواقف الغير المعتادة في حياة وسلوك ابن بطوطة ، فقد عوّدنا على عدم التردد في اتخاذ القرار ، وعلى الأخذ بالأحوط في الموضوع ، وهكذا فقد كان عليه أن يبلغ الحقيقة في الوقت المناسب للسلطان الذي وضع فيه ثقته ، وليكن ما يكون!!
(١٣٩) البرد دراية أصل العبارة (PARDE ـ DAR) الحاجب السلطاني III ٢٨٠.
(١٤٠) يلاحظ أن ابن بطوطة لم يضبط القطيف على نحو ما عند ياقوت في معجم البلدان بفتح القاف وقد مرّ بنا أنه ضبطها (II ,٢٤٧) بضم القاف ...
(١٤١) كان على ابن بطوطة أن يصل ـ في اتجاه الشمال ـ إلى هونفر (Honavar) حوالي أواسط شهر أبريل ١٣٤٢ ـ ذي القعدة ٧٤٢ حتى يبلغ مجموع أيام مقامه لدى هذا السلطان أحد عشر شهرا على ما يذكره جمال الدّين محمد بن حسن ـ انظر التعليق (٨٦).
(١٤٢) ملازمة المسجد والاعتكاف في مثل هذه الظروف يترجم عن الوضع الدقيق الذي وجد ابن بطوطة نفسه فيه بعد مصرع رفاقه في السفارة وبعد تفريطه في الهدايا الملكية ، وبعد أن نصحه الحاجب أن لا يعود لدهلي! ، وهكذا أخذنا نسمع عن انقطاعه بل وعن التغير الشامل لمسلكه في الحياة ... بعد أن لفّته الحيرة ولم يعد يدري ما ذا سيكون غده؟!