إقامة الصناعات المتميزة الراقية ، وقامت بجانبها صناعات تسد الحاجات «الشعبية» للعدد الكبير من السكان ، غير أن إنتاج هذه الصناعات في سامرّاء كان لسدّ حاجاتها ، وليس لتصديرها ، فلم يرد في المصادر ما ينص على أن سامرّاء أصبحت مركزا لإنتاج مصنوعات تصدّر إلى مدن أخرى.
ويذكر أن المعتصم استورد أهل كل مهنة وصناعة ، مع عيالهم إلى هذه المواضع وأقطعوا فيها ، وجعل هناك أسواقا لأهل المهن بالمدينة (١). يتبين من هذا النص أن الذي أورده اليعقوبي وهو معروف بسعة اطلاعه أن المعتصم ألزم الصنّاع الأحرار بالمجيء إلى مدينته الجديدة ، مع عيالاتهم للإقامة الدائمة فيها.
ولابدّ أن المعتصم كان يدرك أن إقامتهم ستكون دائمة لأن الحاجة إلى أعمالهم ستستمر مع دوام نمو المدينة التي جلبهم إليها. وهذا يدل على أن هدفه منها إنشاء مركز حضري متنام وليس مجرّد معسكر ، وهؤلاء الصنّاع مرتبطون بمهنهم وليس بأصولهم العرقية ، وأصول سكناهم منوعة ، عدّد منها مصر والبصرة والكوفة ، وأشار إلى جماعات جيء بهم «من سائر البلدان» أي من مدن متعددة لم يسمّها ، ولكنهم يحتفظون بسماتهم المتميزة بارتباطهم بالمهنة بالدرجة الأولى. ولعلهم كانوا يسيرون وفق تقاليدهم الخاصة القديمة في المهنة ، وأن الدولة لم تتدخل في تغيير هذه التقاليد التي كان يرى بعض الفقهاء «إذا كانت في البلاد سنّة أعجمية فليس للإمام أن يغيّرها» (٢).
تتابعت هجرة العمال والكسبة إلى سامرّاء بعد تأسيسها لأن الإعمار تتابع ، والنمو استمر ، وتدفّق الأموال لم ينقطع ، وكان انتقاء هؤلاء العمال والصناع حرّا غير مقيد وانحصر عملهم بحرفهم فلم يسهموا في الأحداث السياسية ولم يخلقوا مشاكل أمنية ، نظرا لازدهار الحياة الاقتصادية والمعاشية وقوة الخليفة القائمة على مكانة الخلافة المثبتة وعلى الجيش الموالي والذي لم تكن له صلة قوية بالكسبة والصناع من العناصر المدنية التي جاءت من بغداد والمناطق المجاورة لسامرّاء.
__________________
(١) البلدان ٢٦٤.
(٢) البخاري : بيوع ٩٥ ، ابن سعد ٦ / ٩٤ ، أخبار القضاة لكويج ٢ / ٣٥١ ، ٣٧٢.