تكن مجرد «ثكنة عسكرية» ، وإنما سرعان ما تنامت فيها الحياة الحضرية وما تحويه من نشاطات اقتصادية وفكرية.
تظهر حصيلة المعلومات المستمدة من المصادر المعتمدة صورة عامة تختلف في كثير من مظاهرها عما ساد أفكار الناس. فالمعتصم لم يكن أول خليفة عزف عن جعل بغداد مقر إقامته الدائم ؛ وانحراف أهل بغداد لم يبدأ به وإنما كان قائما قبله ؛ لم تكن له صلة دم بالأتراك ، ولا كان أول من جلبهم ، ولم يكونوا عماد جيشه ، فقد كان بجانبهم أعداد أكبر من الخراسانية والمغاربة العرب وغيرهم ؛ وأسكن أكثر الأتراك في أطراف سامرّاء وليس في قلبها ، وفرّقهم في السكن ، ولم يكن لهم أو لرؤسائهم دور بارز في الحياة السياسية والإدارية إلا بعد مقتل المتوكل وما أعقبه من بروز القادة وما حدث بينهم من مشاحنات ختمت بعودة الخلفاء في مقامهم إلى بغداد ، وكان لهذا الانتقال الأثر الأكبر في تدهور أحوالها.
ذكرت المصادر عن سامرّاء وأهلها معلومات غير قليلة متفرقة ومشتتة ، ولم يفرد لها بحثا غير اليعقوبي في كتابه البلدان الذي صار المعتمد الأول للباحثين المحدثين ، غير أن كتاباته عنها غير مستوعبة وقائمة على ما جاء في نسخة فريدة قد يكون فيها نقص وبعض التشويش.
أوليت سامرّاء في الأزمنة الحديثة اهتماما ملحوظا ، فجرت في آثارها تنقيبات وصفت في عدد غير قليل من الكتب والمقالات ، ونشرت عنها أبحاث كثيرة تصف بعض مخلفاتها الأثرية وبعض جوانب الحياة السياسية والأدبية والفكرية والحضارية ؛ ولكن لم يفرد بحث للتركيب السكاني لأهلها وتنظيماتهم ؛ وهذا الكتاب يعالج هذا الجانب ، ويهدف إلى سدّ هذا الفراغ ، وإذا كانت كثير من الحقائق التي وردت فيه معروفة من قبل ، فإن الصورة العامة التي يقدمها لم تحظ بالعناية الجديرة بها ، وهي إسهام في توضيح أحوال سامرّاء وفي تطور الحياة الحضرية في الإسلام نرجو أن يكون في نشرها توضيح لجوانب كانت مغفلة.
ومن الله التوفيق