تباعده من الأسد سببا لأكله ، فإن رفعت ، فالكلام حسن كأنه قال : لا تدن منه فإنه يأكلك ، وإن أدخلت الفاء فحسن ، وذلك قولك : لا تدن منه فيأكلك.
وليس كل موضع تدخل فيه الفاء يحسن فيه الجزاء ، ألا ترى أنه يقول : ما أتيتنا فتحدّثنا ، والجزاء هاهنا محال ، وإنما قبح الجزم في هذا ؛ لأنه لا يجيء فيه المعنى الذي يجيء إذا أدخلت الفاء.
وسمعنا عربيا موثوقا بعربيته يقول : لا تذهب به تغلب عليه ، فهذا كقوله : لا تدن من الأسد يأكلك. وتقول : ذره يقل ذاك ، وذره يقول ذاك ، فالرفع من وجهين : أحدهما الابتداء ، والآخر على قوله : ذره قائلا ذلك فتجعل (يقول) في موضع قائل.
فمثل الجزم قول الله ـ عزوجل ـ : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ)(١) ، ومثل الرفع قوله ـ جلّ ثناؤه ـ : (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(٢).
وتقول : ائتني تمشي أي ائتني ماشيا ، وإن شاء جزمه على أنه إن أتاه مشى فيما يستقبل ، وإن شاء رفعه على الابتداء ، قال الله ـ تعالى ـ : (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى)(٣). فالرفع على الوجهين على الابتداء ، وعلى قوله : اضربه غير خائف ولا خاش ، وتقول : قم يدعوك لأنّك لم ترد أن تجعل دعاء بعد قيامه ، ويكون القيام سببا له ، ولكنك أردت قم إنه يدعوك ، وإن أردت ذاك المعنى جزمت.
وأما قول الأخطل :
كرّوا إلى حرّتيكم تعمرونها |
|
كما تكرّ إلى أوطانها البقر (٤) |
فعلى قوله : كروا عامرين ، وإن شئت رفعت على الابتداء.
وتقول : مره يحفرها ، وقل له يقل ذاك ، وقال الله ـ عزوجل ـ : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ ، وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ)(٥) ولو قلت مره يحفرها على الابتداء كان جيدا ، وقد جاء رفعه على شيء ، وهو قليل في الكلام على مره أن
__________________
(١) سورة الحجر ، الآية : ٣.
(٢) سورة الأعراف ، الآية : ١٨٦.
(٣) سورة طه ، الآية : ٧٧.
(٤) البيت في ديوانه ١٠٨ ؛ والكتاب ٣ / ٩٩.
(٥) سورة إبراهيم ، الآية : ٣١.