الرموز والطاقات والكوادر ، التي تشيد مجتمعاً ذا مكانة حضاريّة وكيان معرفي مرموق .. بناؤنا هذا قد منح مفهوم التكريم بُعداً خاصّاً ، ولاسيّما أنّ النصّ والعقل والإجماع سائرة بهذا الاتّجاه (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (فَأَمَّا الاْنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ) (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهَ أَتْقَاكُمْ) (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ) (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) ... بفعل علوّ المرتبة والتفوّق.
لكنّنا بسبب عوامل التراجع القيَمي والديني والحضاري وتسلّط الضوابط الخاطئة الخاضعة للمنافع الخاصّة والاندفاعات الرغبويّة الضيّقة ، قد زلزلنا الموضوع من أصله وذاته ، ممّا ولّد انتكاسات كبيرة تركت لمساتها على المسار السوسيو ـ انثروبولوجي في مجتمعنا واُمّتنا ، فصار الشعور بالإحباط واليأس والألم من أخطر دواعي التراجع العلمي والفتور المعرفي ، ولاسيّما أنّ مناهجنا وأنساقنا وأدواتنا التي تنهض لتشخيص الخلل والنقص والحاجة هي بذاتها تفتقر المراجعة والتقويم والتحليل ، ذلك بسبب هروبنا إلى السطح والقشور المؤمّنة لشهواتنا ومرامينا.
إنّنا نأكل عظماءنا وفضلاءنا وطاقاتنا الذي هو أكلٌ للقيم والمفاهيم الصحيحة ، إنّنا لا نكرّم سوى رغباتنا وأهواءنا وميولنا ومناطق نفوذنا وعوامل هيمنتنا ، كي نبقى وتبقى لنا الأشياء فنفعل ما نشاء ، فلا كرامة للقيم والمبادىء والعلم والمعارف وذويها ، ويا بئس الفضاء الذي تحلّق به الشهوة وتهوي به المفاهيم النبيلة إلى القاع والحضيض.