وفي العلل ومعلولاتها. وكثيرا ما عرضت للمسلمين وغيرهم شبه وأغلاط في هذا المعنى صرفتهم عن تطلّب الأشياء من مظانّها وقعدت بهم عن رفو أخلالهم في الحياة الدنيا أو غرّتهم بالتفريط فيما يجب الاستعداد له كل ذلك للتخليط بين الأحوال الدينية الأخروية وبين السنن الكونية الدنيوية ، كما عرض لابن الراوندي من حيرة الجهل في قوله :
كم عالم عالم أعيت مذاهبه |
|
وجاهل جاهل تلقّاه مرزوقا |
|
||
هذا الذي ترك الأوهام حائرة |
|
وصيّر العالم النّحرير زنديقا |
ولا شكّ أنّ الذين استمعوا القرآن ممّن أنزل عليه صلىاللهعليهوسلم قد اهتدوا واستفاقوا ، فمن أجل ذلك تأهّلوا لامتلاك العالم ولاقوا.
و (مَنَ) في قوله (مِنْ بَيْنِنا) ابتدائية. و (بين) ظرف يدلّ على التوسّط ، أي منّ الله عليهم مختارا لهم من وسطنا ، أي منّ عليهم وتركنا ، فيؤول إلى معنى من دوننا.
وقوله : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) تذييل للجملة كلّها ، فهو من كلام الله تعالى وليس من مقول القول ، ولذلك فصل. والاستفهام تقريري. وعديّ (بِأَعْلَمَ) بالباء لأنّه بصيغة التفضيل صار قاصرا. والمعنى أنّ الله أعلم بالشاكرين من عباده فلذلك منّ على الذين أشاروا إليه بقولهم : (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ) بمنّة الإيمان والتوفيق.
ومعنى علمه تعالى بالشاكرين أنّه أعلم بالذين جاءوا إلى الرسول صلىاللهعليهوسلم مستجيبين لدعوته بقريحة طالبين النجاة من الكفر راغبين في حسن العاقبة ، فهو يلطف بهم ويسهّل لهم الإيمان ويحبّبه إليهم ويزيّنه في قلوبهم ويزيدهم يوما فيوما تمكّنا منه وتوفيقا وصلاحا ، فهو أعلم بقلوبهم وصدقهم من الناس الذين يحسبون أنّ رثاثة حال بعض المؤمنين تطابق حالة قلوبهم في الإيمان فيأخذون الناس ببزّاتهم دون نيّاتهم. فهذا التذييل ناظر إلى قوله : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) [الأنعام : ٣٦].
وقد علم من قوله : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) أنّه أيضا أعلم بأضدادهم. ضدّ الشكر هو الكفر ، كما قال تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم : ٧] فهو أعلم بالذين يأتون الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ مستهزءين متكبّرين لا همّ لهم إلّا تحقير الإسلام والمسلمين ، وقد استفرغوا وسعهم ولبّهم في مجادلة الرسول صلىاللهعليهوسلم وتضليل الدهماء في حقيقة الدين. ففي الكلام تعريض بالمشركين.
(وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ