أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) وهو نزول الملائكة ؛ فليس للملائكة تصرف في غير ما وجّهوا إليه.
فمعنى الآية أنّ ما اقترحوه لو وقع لكان سيئ المغبّة عليهم من حيث لا يشعرون. وليس المراد أنّ سبب عدم إنزال الملك رحمة بهم بل لأنّ الله ما كان ليظهر آياته عن اقتراح الضالين ، إذ ليس الرسول صلىاللهعليهوسلم بصدد التصدّي لرام كلّ من عرضت عليه الدعوة أن تظهر له آية حسب مقترحه فيصير الرسول صلىاللهعليهوسلم مضيّعا مدّة الإرشاد وتلتفّ عليه الناس التفافهم على المشعوذين ، وذلك ينافي حرمة النبوة ، ولكن الآيات تأتي عن محض اختيار من الله تعالى دون مسألة. وأنّما أجاب الله اقتراح الحواريّين إنزال المائدة لأنّهم كانوا قوما صالحين ، وما أرادوا إلّا خيرا. ولكنّ الله أنبأهم أنّ إجابتهم لذلك لحكمة أخرى وهي تستتبع نفعا لهم من حيث لا يشعرون ، فكانوا أحرياء بأن يشكروا نعمة الله عليهم فيما فيه استبقاء لهم لو كانوا موفّقين. وسيأتي عند قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) زيادة بيان لهذا.
ومن المفسّرين من فسّر (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) بمعنى هلاكهم من هول رؤية الملك في صورته الأصلية. وليس هذا بلازم لأنّهم لم يسألوا ذلك. ولا يتوقّف تحقّق ملكيّته عندهم على رؤية صورة خارقة للعادة ، بل يكفي أن يروه نازلا من السماء مثلا حتى يصاحب النبيصلىاللهعليهوسلم حين يدعوهم إلى الإسلام ، كما يدلّ عليه قوله الآتي : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً).
وقوله : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) عطف على قوله : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) فهو جواب ثان عن مقترحهم ، فيه ارتقاء في الجواب ، وذلك أنّ مقترحهم يستلزم الاستغناء عن بعثة رسول من البشر لأنّه إذا كانت دعوة الرسول البشري غير مقبولة عندهم إلّا إذا قارنه ملك يكون معه نذيرا كما قالوه وحكي عنهم في غير هذه الآية ، فقد صار مجيء رسول بشري إليهم غير مجد للاستغناء عنه بالملك الذي يصاحبه ، على أنّهم صرّحوا بهذا اللازم فيما حكي عنهم في غير هذه الآية ، وهو قوله تعالى : (قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) ، فجاء هذا الجواب الثاني صالحا لردّ الاقتراحين ، ولكنّه روعي في تركيب ألفاظه ما يناسب المعنى الثاني لكلامهم فجيء بفعل جعلنا المقتي تصيير شيء آخر أو تعويضه به. فضمير (جَعَلْناهُ) عائد إلى الرسول الذي عاد إليه ضمير (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) ، أي ولو اكتفينا عن إرسال رسول من نوع البشر وجعلنا الرسول إليهم ملكا