عليه قوله تعالى : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) [البقرة : ١٩٨]. فالمعنى : نقلّب أفئدتهم لأنّهم عصوا وكابروا فلم يؤمنوا بالقرآن أوّل ما تحدّاهم ، فنجعل أفئدتهم وأبصارهم مستمرّة الانقلاب عن شأن العقول والأبصار ، فهو جزاء لهم على عدم الاهتمام بالنّظر في أمر الله تعالى وبعثة رسوله ، واستخفافهم بالمبادرة إلى التّكذيب قبل التّأمّل الصّادق.
وتقديم الأفئدة على الأبصار لأنّ الأفئدة بمعنى العقول ، وهي محلّ الدّواعي والصّوارف ، فإذا لاح للقلب بارق الاستدلال وجّه الحواس إلى الأشياء وتأمّل منها. والظّاهر أنّ وجه الجمع بين الأفئدة والأبصار وعدم الاستغناء بالأفئدة عن الأبصار لأنّ الأفئدة تختصّ بإدراك الآيات العقليّة المحضة ، مثل آية الأمّية وآية الإعجاز. ولمّا لم تكفهم الآيات العقليّة ولم ينتفعوا بأفئدتهم لأنّها مقلّبة عن الفطرة وسألوا آيات مرئيّة مبصرة ، كأن يرقى في السّماء وينزل عليهم كتابا في قرطاس ، أخبر الله رسوله صلىاللهعليهوسلم والمسلمين بأنّهم لو جاءتهم آية مبصرة لما آمنوا لأنّ أبصارهم مقلّبة أيضا مثل تقليب عقولهم.
وذكّر (أَوَّلَ) مع أنّه مضاف إلى (مَرَّةٍ) إضافة الصفة إلى الموصوف لأنّ أصل «أوّل» اسم تفضيل. واسم التّفضيل إذا أضيف إلى النّكرة تعيّن فيه الإفراد والتّذكير ، كما تقول : خديجة أوّل النّساء إيمانا ولا تقول أولى النّساء.
والمراد بالمرّة مرّة من مرّتي مجيء الآيات ، فالمرّة الأولى هي مجيء القرآن ، والمرّة الثّانية هي مجيء الآية المقترحة ، وهي مرّة مفروضة.
(وَنَذَرُهُمْ) عطف على (نُقَلِّبُ). فحقّق أنّ معنى (نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ) نتركها على انقلابها الّذي خلقت عليه ، فكانت مملوءة طغيانا ومكابرة للحقّ ، وكانت تصرف أبصارهم عن النّظر والاستدلال ، ولذلك أضاف الطّغيان إلى ضميرهم للدّلالة على تأصّله فيهم ونشأتهم عليه وأنّهم حرموا لين الأفئدة الّذي تنشأ عنه الخشية والذّكرى.
والطّغيان والعمه تقدّما عند قوله تعالى : (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) في سورة البقرة [١٥].
والظّرفيّة من قوله : (فِي طُغْيانِهِمْ) مجازية للدّلالة على إحاطة الطّغيان بهم ، أي بقلوبهم. وجملة : (وَنَذَرُهُمْ) معطوفة على (نُقَلِّبُ). وجملة (يَعْمَهُونَ) حال من الضّمير المنصوب في قوله : (وَنَذَرُهُمْ). وفيه تنبيه على أنّ العمه ناشئ عن الطّغيان.