وهذا ما تشهد عليه الآثار المتناثرة التي نشاهدها بكثرة ، فكانت تلك الأسوار المتهدمة لتلك البنايات عينات عن البقايا الملموسة للعمارة الرومانية والتي لم يستطع إلا القليل منها مقاومة عوامل الزمن وأعمال تخريب الوندال والعرب (١) ، فقد زودنا الباي بحراسة كافية تمكننا من الذهاب لمشاهدة آثار المدن والحصون القديمة ، وقد وجدنا في إحدى هذه الحصون التي يسميها العرب تيفاش (٢) بعض النقوش اللاتينية التي تتميز بحروفها الجميلة جدا وهذا نموذج منها :
(. M. S. Julia Junuaria P. V. a LXXXXVII. M. S. a Dis manib. Sec terentiur Fab.)
لقد اطلعنا في هذا المكان على أعداد كثيرة من هذه النقوش الجنائزية والتي تركناها ملقاة حيث كانت ولم نحاول جمعها ما دامت لا تتضمن شيئا جديرا بالملاحظة. وعلى بعد بضعة فراسخ من هذا المكان توجد آثار قديمة تتصف بشيء من الغرابة ، مما دفعنا لزيارتها فذهبنا إليها عبر مسلك مبلط بالحجارة وهو طريق تونس قسنطينة الروماني (٣) ، وهو بلا شك إنجاز يعود إلى
__________________
(١) تأثر صاحب الرحلة بالأقوال المتداولة التي تحمل العرب ـ والمقصود هنا العشائر الهلالية ـ ما أصاب المغرب الأوسط من خراب ، والواقع أن تراجع العمران وتعرض المظاهر الحضرية للتخريب كان ظاهرة عامة ارتبطت بتقدم البداوة نحو الشمال ، وتأكدت في القرن الخامس مع الاجتياح الوندالي ، واستمرت بعد ذلك لعدة قرون حتى أتت على معالم الحضارة القديمة التي عرفتها نوميديا أثناء الحكم الروماني.
(٢) تيفاش وهي مدينة تيبازا نوميديا (Tipasa) التي يربطها الطريق الروماني الرئيسي بكل من قرطاج وسرتا. عرفت ازدهارا ملحوظا في القرن الثالث الميلادي وظلت محافظة على عمرانها رغم تخريب الوندال لها في القرن الرابع ، وعدت في الفترة الإسلامية الأولى ، حسب ما يفهم من أوصاف الرحالة والجغرافيين ، من المراكز العمرانية المهمة الواقعة على طريق التل الشمالي الرابط بين الأربس وميلة ، وتضاءلت أهميتها العمرانية بعد ما استولى عليها أبو عبد الله الشيعي حتى تحولت إلى مجرد أنقاض.
(٣) طريق قرطاج ـ سرتا (Via Carthage) أهم الطرق الرومانية بشمال إفريقيا ، يربط عاصمة نوميديا سرتا (قسنطينة) بمركز السلطة الرومانية بإفريقيا (قرطاج) ، وأهم