لذا كان عاقلا ذكيا فطنا ، يمتاز بسرعة البديهة ، وحصافة الرأي وسداد التفكير ، واستقرار النفس ، قويا في جسمه وذاكرته ، سليما في كل أعضائه. ويشهد لذلك جهاده الطويل ، وسياسته الحكيمة ، وتخطيطاته الحربية الناجحة ، وتنظيماته الاجتماعية الكاملة ، وكمال الدين الذي دعا له.
لذا نفى الله سبحانه عنه صفة الجنون لأنها تناقض هدي النبوة وتخل بشرف الرسالة. قال سبحانه : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ)(١) ويأبى الله إلا أن يظهر الحق حتى على ألسنة أعدائه.
فهذا أحد المستشرقين وهو «أميل درمنغم» يصف هذا النبي العظيم : [وقد غفل المشتغلون بأمور النفس الحضريون الذين افترضوا وجوده من الصرع والاستيحاء والخيال المتقد ، عن حياة الخيام في الصحراء ، وعما يجب أن يبديه الرجل فيها من الحذق والدهاء ليبقى زعيم عصبة من الأعراب ، وحياة محمد كانت منتظمة موزونة قبل بعثته ، وما انفكت تكون كذلك بعدها إلا في حالات الوحي].
قال «أرميا» : [انسحق قلبي في وسطي ، ارتخت كل عظامي ، صرت كإنسان سكران ، ومثل رجل غلبته الخمر من أجل كلام الرب ومن أجل كلام قدسه] .. ولم تنشأ رؤى محمد ووحيه من مرض فيه ، بل كانت تبدو عليه علائم المرض بسبب الرؤى والوحي ، وهنالك ظواهر مشتركة بين مريض الأعصاب أو المهوس وبين الموحى إليه الصادق ، فالأول منفعل غير فاعل. والآخر مبدع فاعل ، وهذا إلى أن من الجائز أن يقال : إن البنية المريضة قليلا تساعد على التصوف ويزيدها التصوف مرضا.
والحق أن محمدا كان مبرأ من مثل هذه الأمراض على الدوام ، فقد كان تام الصحة إلى أن بلغ سن الكمال ، ولم تبد العوارض عليه بعد هذه السن إلا
__________________
(١) سورة التكوير : ٢٢.