فما زال «بلاشير» يزعم أن المجتمع المسلم مجتمع ارستقراطي قياسا على المفهوم الغربي مع أنه مجتمع فريد ، لا يفرق فيه بين غني وفقير ، ولا بين حاكم ومحكوم ، وتعاليم الإسلام ما زالت فيه غضة طرية جعلت الناس فيه طبقة واحدة ، طبقة لا يخضعون إلا لله الواحد في كل عباداتهم ، وأحكامهم ، ومعاملاتهم ، فهم في صلاتهم على بساط واحد يصومون في وقت واحد ، ويحجون في وقت واحد ، وأماكن واحدة ، وعلى هيئة واحدة ، فمن هنا يظهر سوء فهم المستشرقين للمجتمع المسلم وروحه.
أما الدافع لعثمان لتكليف هؤلاء بهذا العمل العظيم فلم يكن لما ذكره «بلاشير» من الاعتبارات ، وإنما لدافع كفاءة أفرادها دون مكانتهم الاجتماعية أو صلاتهم الخاصة.
والذي يؤكد ذلك أن ناقدي عثمان الكثر في عهده لم ينتقدوه بمثل هذه الأقوال المكذوبة بأن استعمال لجنة جمع القرآن كان لدافع نفعي ، أو غرض شخصي ، أو مصاهرة مختلفة. فهؤلاء الصحابة كانوا يتمتعون بصفات تؤهلهم لهذا العمل الجليل ، فهم من صحابة رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه ، ومن ثقات الصحابة وأفاضلهم ، وممن شهد لهم بالإيمان والخيرية والورع والإخلاص والأمانة التامة والنزاهة المطلقة.
فسعيد بن العاص ـ الذي زعم بلاشير أن مشاركته كانت مشاركة فخرية فقط لا فعلية ، لأنه كان آنذاك أميرا على الكوفة سنة ثلاثين من الهجرة (٣٠ ه) (١) مع أن الصواب أن سعيدا لم يكن بعد قد عين أميرا على الكوفة ، بل كان أحد أعضاء اللجنة الرباعية الرئيسيين وسعيد هذا فقد كان أفصح الناس ، وأشبههم لهجة برسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وقد أدرك تسع سنين من حياة رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ولم يعلم عنه إلا كل خير. وقد استعمله عثمان ـ رضي الله عنه ـ على الكوفة واستعمله من بعده معاوية على المدينة. وما عرف عنه إلا الخير
__________________
(١) مقدمة القرآن ـ بلاشير ص ٥٦ ـ ٥٨.