ولكن ليس معنى ذلك أن أهل الكتاب بأجمعهم هم ممّن يخونون الأمانات ولا يؤدّونها ، بل ربما تجد بعض النماذج الأمينة من موقع تربية ذاتية معيّنة ، تغرس في داخله روح الأمانة بعيدا عن مفهوم الرخصة الدينيّة المتوهّمة. فإذا ائتمنته على قنطار ـ وهو المال الكثير ـ أداه إليك ، كما تجد النموذج الذي لا تستطيع أن تأتمنه على أيّ مال مهما كان قليلا كالدينار ، لأنه سوف ينكره ولا يؤدّيه إلّا إذا كنت قائما عليه ، بكل ما تملكه من أساليب الضغط والمقاومة والمحافظة على المال. فإن مثل هذا النموذج لا يشعر بعقدة الذنب في ممارسته هذه ، لاعتقاده بأنّ ذلك حقّ له وحلال عليه ، ولكنّ الله سبحانه ينكر عليهم هذا الزعم وهذه الرخصة ، لأنّه سبحانه يعتبر الأمانة عهدا بين الأمين وصاحب الأمانة ، وبذلك يكون استحلالها خيانة لها والله لا يحبّ الخائنين ، فكيف إذا جمعوا في أنفسهم الخيانة والكذب على الله في ما ينسبونه إليه من قول باطل يعلمون بطلانه. إن الله لا يحبّ هؤلاء ، بل إنه يحبّ المتقين الذين يعتبرون العهد مسئولية في أيّ جانب من جوانب الحياة ، سواء كان ذلك في المال أو في الشؤون الأخرى الحياتية ، فيرون الوفاء بعهده جزءا من مسئوليتهم تجاهه ، وتجاه النّاس من خلال ما يكلفهم به من شؤون النّاس.
وذلك هو الأساس في حبّ الله لعباده ، في ما ينطلقون فيه من أعمال ، وما ينطلقون منه من ملكة التقوى في ما يريد وما لا يريد ، وتلك هي قصّة الأمانة في التشريع الديني ، أيّ تشريع كان ، فإن الله لم يبعث نبيا إلّا بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البر والفاجر. حتى الكافر الذي يحل لك قتاله لكفره وعدوانه ، لا يحل لك خيانة أمانته. وقد ورد في حديث الإمام جعفر الصادق عليهالسلام : ثلاثة لا عذر لأحد فيها : أداء الأمانة إلى البر والفاجر والوفاء بالعهد للبر والفاجر ، وبرّ الوالدين برين كانا أو فاجرين (١).
* * *
__________________
(١) البحار ، م : ٢٦ ، ج : ٧١ ، ص : ٤٧ ، باب : ٢ ، رواية : ٤٦.