فقد قدم هؤلاء إلى مركز الإسلام القويّ ، من أجل أن يناقشوا الدين الجديد ، فأعطاهم النبي كل الحرية في ذلك ، إلى مستوى السماح لهم بأداء طقوسهم وعباداتهم في مسجد النبي تحت سمعه وبصره في مجتمع المسلمين الكبير ، حتى أن النبي لم يستجب لتساؤلهم وإنكارهم لذلك ، بل طلب منهم أن يتركوا لهم الحرية في ذلك ، ليشعرهم ـ على الطبيعة ـ كيف يحافظ الإسلام على مشاعر الآخرين وحرياتهم في الإطار العام للنظام الكامل ، وليعطيهم انطباعا ذاتيا ، أنه لا يؤمن بالقوة كسبيل من سبل إدخال الآخرين في الإسلام من دون اقتناع منهم بذلك ...
وهكذا كان ، وبدأ النبي حوارة معهم من موقع الدليل والحجة والبرهان ، كما تنقله لنا القصة ... سؤالا وجوابا في حوار هادئ قويّ ، يستجيب للسؤال في البداية ، ثم يطرح السؤال عليهم من جديد ليلزمهم بالحجة من خلال ذلك.
وقد نفهم من الآية الكريمة ، أن الحوار لم يقتصر على هذا الجانب فحسب ، بل تعداه إلى جميع الجهات التي يختلف فيها المسلمون والمسيحيون في نظرتهم إلى عيسى عليهالسلام ، وإلى الطبيعة الاعتقادية ، لأن الآية تتناول المحاجة فيه بكل ما جاءه من العلم. ويظهر من الآية ومن جوّ القصة أن هؤلاء لم يريدوا الاقتناع ، بل دخلوا في جدل عقيم لا يحقّق أيّ هدف ، ولا يصل إلى أية نتيجة ؛ مما دعا النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى طرح المباهلة عليهم ، كأسلوب من أساليب التأثير النفسي الذي يشعرهم بالثقة المطلقة بالعقيدة الإسلامية وبمفاهيم الدعوة الجديدة ... حتى أن النبي كان مستعدا لأن يعرّض نفسه للموقف الصعب عند ما يقف مع أهل بيته ليواجهوا الآخرين بالوقوف بين يدي الله في ما تنازعوا فيه ، فيطلبون منه ـ سبحانه ـ أن يجعل اللعنة على الكافرين.
وقد أراد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يزيد الموقف تأثيرا في الإيحاء النفسي لدى الآخرين بالثقة ، فلم يقتصر على تقديم نفسه للمباهلة والملاعنة ، بل طرح القضية على أساس اشتراك أهل بيته معه في ذلك ، مع أن بإمكانه أن يحصر الأمر بنفسه ، دون أن يترك ذلك أيّ تأثير سلبيّ في الموقف.