التأمّل من خلال إثارة المنهج في ملاحقة الحقيقة ، وتقرير المبدأ في مواجهة الواقع. وهذا ما نحاول أن نتلمسه في دراستنا لهذه الآيات.
فقد طرح أهل الكتاب شخصية إبراهيم ـ النبي ـ الذي يعتبر من الشخصيّات النبويّة المحترمة لدى كافة الناس ، بما فيهم مشركي مكة ، الذين ينتسبون إليه باعتبار أن قريش من ولد إسماعيل ، وكان لهذا الاحترام دوره الكبير في ارتباط الناس بالفكر أو الدين الذي ينتسب إليه هذا النبيّ العظيم. ولهذا حدث التنافس في نسبته إلى هذا الفريق أو ذاك من الديانات المطروحة في الساحة الدينيّة ، فقد كان اليهود يقولون : إنه يهودي ، ويريدون من خلال ذلك أن يدفعوا الناس إلى اعتناق اليهودية ، على أساس اعتناق إبراهيم لها. وكان النّصارى يقولون : إنه نصراني ، ليقودوا الناس إلى النصرانية من خلال ارتباطه بها. ولم تكن القضية لدى الطرفين مطروحة للمناقشة حتى يفيض الناس فيها بالحوار والنزاع ، بل كانت مطروحة للإيمان الأعمى الذي يقبل كل شيء من دون معارضة ، انطلاقا من الفكرة القائلة بأنّ الإيمان فوق العقل.
وجاء القرآن ليفضح اللعبة ويضع النقاط على الحروف ، فطرح القضية للمناقشة في جانبها التاريخي الزمني ، ودعاهم إلى استنطاق عقولهم في ذلك ، فإن اليهودية انطلقت من التوراة التي أنزلت على موسى عليهالسلام بعد وقت طويل من عهد إبراهيم ، كما أن النصرانية استندت إلى الإنجيل المنزل على عيسى عليهالسلام بعد ذلك الزمن بوقت بعيد جدا ؛ فكيف ينتسب إبراهيم إلى هذا أو ذاك في الوقت الذي يسبق زمانه زمانهما؟! وكيف يمكن أن ينتسب السابق إلى اللّاحق ، في ما يوحي به العقل من موازين ومقاييس؟!
(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) لتقدموه كشخصية يهودية أو نصرانية تجتذب الناس إليكم من خلال ما يتميز به من تقديس واحترام والتزام بنبوّته في وجدان الناس ، (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ) التي ينتسب اليهود إليها في دينهم ، (وَالْإِنْجِيلُ) الذي ينتسب إليه النصارى في التزامهم الديني ، (إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) فهناك فاصل زمني كبير بين إبراهيم وموسى وعيسى عليهمالسلام ، فكيف