والمشهور عندهم أنّ التقدّم والتأخّر على أنحاء خمسة : بالعلّية وبالطبع وبالزمان وبالرتبة وبالشرف ، كما هو مذهب الحكماء ، أو ستّة كما هو رأي المتكلّمين : تلك الخمسة وبالذات ، كما بين أجزاء الزمان عندهم.
فينبغي أن ينظر أنّ أيّا من معاني التقدّم والتأخّر يصحّ إرادته في الآية الكريمة ، وعلى تقدير الصحّة فهل هما بمعنى واحد في الأوّلية والآخريّة أو بمعنيين مختلفين ، وأنّه كيف يصحّ إطلاق الأوّل والآخر على ذات واحدة ، وأنّ هذا الإطلاق هل هو باعتبار واحد أم باعتبارين ، وأنّ هذه الأوّليّة والآخريّة هل هما بالنسبة إلى ذاته تعالى بمعنى أنّه تعالى متقدّم على ذاته ومتأخّر عن ذاته ، أو بالنسبة إلى غيره بمعنى أنّه متقدّم على غيره ومتأخّر عن غيره.
فنقول : لا يخفى عليك أنّ التقدّم بالعلّية وإن صحّ إطلاقها على ذاته تعالى بالنسبة إلى غيره ، بمعنى أنّه تعالى علّة موجدة لما سواه ، لكنّه لا يصحّ إطلاق المتأخّر بهذا المعنى عليه ، فإنّ المتأخّر بالعلّية معناه كونه معلولا ، والحال أنّه تعالى شأنه ليس بمعلول لا لذاته ولا لغيره.
وكذلك التقدّم بالطبع ، لو اريد به تقدّم العلّة الناقصة ما سوى العلّة الفاعليّة ، فلا يصحّ إطلاقه عليه تعالى أصلا وإن اريد به أعمّ من ذلك حتّى يشمل تقدّم العلّة الفاعليّة أيضا ، فهو على تقدير صحّة إطلاقه عليه تعالى بالنسبة إلى غيره ، لا يصحّ إطلاق المتأخّر بالطبع عليه تعالى ، لاستلزام كونه معلولا بالطبع ، وهو سبحانه وتعالى منزّه عن ذلك.
وأيضا قد تقرّر عندهم أنّه لا يجوز في السبق بالعلّية وبالطبع أن يصير السابق متأخّرا وهو هو بعينه ، ولذلك قيل : إنّهما سبقان حقيقيّان ، وأولى بمفهوم السبق من غيرهما ، كالسبق بالشرف وبالرتبة وبالزمان ، حيث يجوز فيها ذلك.
والحال أنّه في الآية الكريمة اطلقت الأوّلية والآخريّة كلتاهما على ذاته تعالى ولا يخفى أنّ ذاته تعالى لا تغيّر فيه أصلا وهو هو بعينه في الحالين ، فلا يكون معناهما التقدّم والتأخّر بالعلّية أو بالطبع.
ولا يخفى أيضا أنّ التقدّم والتأخّر بالرتبة لا يصحّ إرادتهما في الآية ، إذا المعتبر فيهما أن يكون هناك ترتّب بين السابق والمسبوق ، إمّا ترتّب حسّي كما بين الإمام والمأموم ،