أمارات قيام الساعة والطامّة الكبرى ، إذ قد ظهرت فيه الداهية الدهياء ، وفشت فيه المحن التي هي عامّة البلوى ، تعمّ عامّة البرايا ، يشيب فيها الصغير ، ويهرم فيها الكبير ، ويكدح فيها كلّ مؤمن حتّى يلقى ربّه ويفنى ، قد جرّد الدهر على أهاليه سيف العدوان ، وأباد من كان ، وتطرّق الفساد إلى أوضاع العالم ، وانسدّ طرق معاش بني آدم ، قد اغبرّ عيشهم الأخضر ، واسودّ يومهم الأبيض ، وابيضّ فودهم الأسود ، يتمنّون الموت الأحمر ، وأشرف شمس العلم على الغروب ، وخمل أهل الكمال في زوايا الغروب ، يتّقي أهل الديانة من إظهار دينهم ، ويدين بالتقيّة كلّ الورى ، عجّل الله تعالى ظهور دولة صاحبنا ومولانا ، حتّى ينكشف به تلك البليّة العظمى.
ومع هذا فكيف في مثل هذا الزمان لمثلي من القاصرين الخاملين ، مع توزّع البال وتشتّت الحال صرف الوقت في إظهار الحقّ في هذه المطلب الأسنى ، وتحرير الدليل على هذا المقصد الأقصى ، والعمدة الوثقى ، فقعدت عنه برهة وفي العين قذى وفي الحلق شجى ، لكن لمّا كرّر ذلك البعض من الأصدقاء السؤال وألحّ وأعاد الابتهال ، ورأيت أنّ الإقدام على جواب سؤاله والصبر عليه أحجى ، إذ ربّما تصير الفتنة أشدّ وأقوى ، لا أتمكن من إظهاره أصلا ، والحال أنّ الأيّام تمضي ولا تعود ، والعمر يذهب ولا يئوب ، وتكون الحسرة أدوم ، والنّدامة أبقى ، وقد قال تعالى :
(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ). (١)
(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ). (٢)
(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ، الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى). (٣)
(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى ، سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى). (٤)
شرعت مع قلّة البضاعة وفوات الفرصة وكثرة المشاغل وتوزّع البال وتشتّت الحال في تحريره وتهذيبه وتنقيحه بما تيسّر وأمكن ، امتثالا لقول القائل : «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» (٥) ، وابتغاء لوجه ربّي الأعلى ، وخطابي فيه لمن استمسك في العلم بأوثق الأسباب ، وجانب الاعتساف ونظر فيه بعين الإنصاف ، فإن رأى فيه خطأ أو عثرة وزللا ،
__________________
(١) الضحى : ١١.
(٢) آل عمران : ٩٢.
(٣) الليل : ١٧ ـ ١٨.
(٤) الأعلى : ٩ ـ ١٠.
(٥) من الأمثال المشهورة.