قلت : يمكن أن يكون معنى ذلك أنّ النشأة الدنيويّة عالم مشاهد محسوس ، والنشأة الأخرويّة عالم معقول ، حيث إنّ وجود النشأة الدنيويّة يدرك بالمشاهدة والعيان ، وأنّ النشأة الأخروية يدرك بأخبار الأنبياء عليهالسلام ، وبالدلائل العقليّة ، وهذا كما أنّهم قالوا : إنّ النشأة الدنيويّة عالم الشهادة ، والنشأة الأخرويّة عالم الغيب ، إلّا أنّ هذا الوجه إنّما يستقيم بالقياس إلى من في هذه النشأة الدنيويّة فقط.
وكذلك يمكن إطلاق العالم العقليّ وعالم المعقول بهذا المعنى على النشأة البرزخيّة أيضا ، حيث إنّ وجودها أيضا ليس بمشاهد ، بل هو معلوم لنا بأخبار الأنبياء عليهالسلام وبالدلائل العقليّة.
وكذلك يمكن أن يكون معنى ذلك ، أنّه وإن كان في كلتا النشأتين محسوسا ومعقولا يدركهما النفس ، إلّا أنّ السلطنة والغلبة في النشأة الدنيويّة إنّما هي للحسّ ، والعقل مغلوب له ، حيث إنّ انغماس النفس في الغواشي البدنيّة ، شغلها وألهاها عن إدراك المعقولات كما هو حقّه ، إلّا أن تكون النفس قد خلعت ربقة الغواشي البدنيّة عن عنقها ، وأمّا في النشأة الأخرويّة فالسلطان إنّما هو العقل ، حيث إنّه ليس بمنغمر في تلك الغواشي ، وإنّ الحواسّ الظاهرة والباطنة والآلات البدنيّة العنصريّة وإن كانت موجودة لها في الآخرة ـ حيث نقول بمعاد البدن العنصريّ الأوّليّ ـ إلّا أنّها لا تلهيها ولا تشغلها عن أفعالها الذاتيّة العقليّة أصلا ، كما كانت تلهيها وتغفلها عن ذلك في النشأة الدنيويّة.
والحاصل أنّ النشأة الأخرويّة عكس النشأة الدنيويّة ، وكما كانت السلطنة في الدنيويّة للحسّ ، ولذلك سمّيت بالعالم الحسّيّ ، كذلك تكون السلطنة في الأخرويّة للعقل ، وبذلك يسمّى عالما عقليّا.
ولا يخفى أنّ هذا الوجه يستقيم بالقياس إلى من في النشأتين جميعا.
وأنّه به يمكن أن يستفاد وجه آخر ، لكون ما بعد الموت إلى قيام الساعة عالما برزخيّا متوسّطا بهذا المعنى بين العالمين ، أي الحسّيّ والعقليّ ، حيث إنّ ذلك العالم لما كان عالما مثاليّا ، وكان محسوساتها بصور مثاليّة تدركها النفس بالحواسّ والآلات البدنيّة المثاليّة ، وكذلك كان هناك معقولات تدركها النفس بقوّتها العقليّة ، ولم تكن هناك مزاحمة