بين الحسّ والعقل ، بل كان يفعل كلّ منهما فعله كما هو حقّه. مع أنّه ليس هناك شيء من شأنه أن يشغل العقل عن فعله ، حيث إنّ الشاغل إنّما هو الآلات البدنيّة العنصريّة ، لا الآلات المثاليّة ، فبذلك يسمّى عالما متوسّطا بين العالمين.
وبالجملة ، ففي النشأة الأخرويّة السلطان للعقل ، حيث إنّه مع وجود ما من شأنه أن يكون معارضا له ومزاحما إيّاه ، وهو القوى البدنيّة العنصريّة ، يظهر أفعاله على الوجه الأتمّ ، وفي النشأة الدنيويّة السلطان للحسّ ، حيث إنّه يلهي العقل عن فعله. وأمّا في النشأة البرزخيّة فلا سلطان لأحدهما على الآخر ، والحسّ يفعل فعله كما هو حقّه ، وكذلك العقل يفعل فعله كما هو حقّه ، من دون أن يكون هناك شيئا من شأنه أن يغلبه ، وهو القوى الحسّيّة البدنيّة العنصريّة ، إذ ليست هي هناك ، والقوى الحسّيّة المثاليّة ليست من شأنها أن تغلبه وتعارضه ، فهي بهذا الاعتبار عالم متوسّط بين العالمين.
وكذلك يمكن أن يكون وجه ذلك أنّ كثيرا من مستلذّات الآخرة لمّا كانت توجد بلا مادّة ومدّة ، بل بمحض التصوّر والاشتهاء ، وبإذن الله تعالى كما دلّ عليه كثير من الآيات والأخبار ، كانت مشابهة للأمور العقليّة والمجرّدات عن المادّة ، حيث إنّها أيضا توجد بلا مادّة ومدّة ، بخلاف الموجودات الدنيويّة ، حيث إنّها توجد مع مادّة ومدّة ، فلذلك سمّيت الآخرة بالعالم العقليّ ، والدنيا بالعالم الحسّيّ ، ويطابقه ما قالوه من أنّ الدنيا عالم الخلق ، والآخرة عالم الأمر.
أو أنّ مستلذّات عالم الآخرة من المحسوسات ، وإن كانت لها مادّة جسمانيّة أيضا ، إلّا أنّها لمّا كانت لطيفة في الغاية ، صافية جدا ، وكانت النفس لقوّتها في إدراكها وشدّة تجريدها ، تصل إلى غورها وتسري في جواهرها ، حتّى كأنّها هي بلا فصل ، كما في إدراك العقل للمعقولات ، وليس إدراكها لها هنالك بملاقاة السطوح كما في النشأة الدنيويّة ، سمّيت الآخرة بالعالم العقليّ ، حيث إنّ إدراك النفس لمحسوساتها أيضا شبيه بإدراك العقل للمعقولات ، وسمّيت الدنيا بالعالم الحسّيّ حيث إنّ إدراكها لمحسوساتها ليس على جهة إدراكها لمعقولاتها ولا مشابها له.
أو أنّ موجودات عالم الآخرة من المستلذّات وإن كانت جسمانيّة أيضا ، لطيفة في