موضعه ، بل إنّ ذلك وجوب لاحق ، بمعنى أنّه تعالى لما علم في الأزل أنّه يصدر فيما لا يزال عن العبد بإرادته واختياره الفعل ـ كما هو مذهب الحكماء أيضا ـ فلذا تعلّق العلم الأزليّ به ، وحيث تعلّق العلم الأزليّ به ، وجب أن يكون هو مطابقا له ، والّا لزم جهله تعالى.
وبالجملة ، فهذا الوجوب وجوب لاحق باختيار العبد وإرادته ، والوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار ، بل يؤكّده.
فحينئذ إن سئل عن أنّه لم يعاقب الانسان على شيء صدر عنه على سبيل الوجوب والاضطرار؟ سقط السؤال البتة ، لأنّه ليس على سبيل الوجوب والاضطرار ، وإن سئل عن أنّه لم يعاقب على شيء صدر عنه بالاختيار أو على سبيل الوجوب بالاختيار؟ كان الجواب أنّه لمّا ارتكب بإرادته واختياره الأفعال المنهيّة عاقبة الله تعالى على عصيانه.
وبتقرير آخر أنّه لما كان فعل العبد صادرا عنه بإرادته واختياره ـ كما هو مذهبهم ـ وكان قدرته واختياره مسبّبين عن أسباب ، ومن أسباب إرادته فعل الخير التخويف والعقاب ، وهما من الأسباب المقدّرة لنظام العالم ، كما أنّ فعل الخير مقدّر قدّره تعالى تكليفا وتخويفا وأوفي به فإن سئل عن أنّه لمّا كان فعل العبد مقدّرا ، فلم التخويف أو لم العقاب؟ كان الجواب عنه ، بأنّهما من أسباب فعل الخير الصادر عن العبد.
وبعبارة أخرى لمّا كانت النّفس الإنسانيّة في علم الباري تعالى قابلة للكمالات ، وكانت العناية الأزليّة والحكمة المتعالية اقتضت إفاضته تلك الكمالات عليها ، لكن بحسب استعدادات تحصل هي لها من أفاعيلها الإراديّة ، وكانت فيها قوى تمنعها عن تلك الأفاعيل وتميلها إلى أفاعيل بالإرادة تضادّها قدّر تعالى تكليفا وتخويفا يكون من أسباب إرادته الأفاعيل الجميلة ، ولما كان الوفاء بذلك التخويف أيضا من أسباب ذلك مؤكّدا له ، والوفاء بالتخويف هو العقوبة ، لا جرم صارت العقوبة سببا من أسباب إرادة العبد للأفاعيل الجميلة ، وتلك العقوبة كما أنّها من أسباب إرادة الأفاعيل الجميلة ، كذلك هي واقعة على العبد بفعله بالاختيار للأفعال القبيحة لا محذور أصلا.
لا يقال : سلّمنا أنّ التخويف من أسباب إرادة الأفعال الجميلة ، لكنّا لا نسلّم أنّ الوفاء