العناصر ولا فيما بينها.
فإن قلت : إنّ هذه الشبهة ليس لها مدخل في إنكار المعاد الجسمانيّ ، فإنّه لو لم تكن الجنّة والنار موجودتين أيضا الآن ، لم يكن ذلك منافيا لوقوع المعاد الجسمانيّ على ما قرّرناه ، بل هذه شبهة على حيالها واردة على وجود الجنّة والنار الآن على المقدار المخصوص ، وهل هذا إلّا كسائر الشّبهات التي أوردها عليه القائل بعدم وجودهما الآن ككثير من المعتزلة؟ مثل ما قالوه من أنّهما لو كانتا موجودتين الآن ، لكان وجودهما قبل يوم الجزاء عبثا ، وهو لا يليق بالحكيم تعالى شأنه.
والجواب عنه : أنّه يجوز أن يكون الفائدة فيه في النشأة الدنيويّة ترغيب المكلّفين بالطاعات ، وتزهيدهم عن المعاصي أتمّ ترغيب وتزهيد كما بيّناه في آخر الباب الرابع.
وفي عالم البرزخ سرور أهل الجنّة بملاحظتها واغتمام أهل النار بمشاهدتها. على أنّ الفائدة لا يلزم أن تكون معلومة لنا ، إذ يجوز أن يكون في خلقها قبل يوم الجزاء مصلحة وحكمة عظيمة ، وإن لم نكن نعلمها ، حيث إنّ الشرع نطق بوجودهما الآن ، ونحن نعلم أنّ فاعلها الحكيم تعالى شأنه لا يفعل العبث.
ومثل ما قالوه إنّ الجنّة والنار لو كانتا موجودتين الآن ، والحال أنّ الإجماع واقع على بقائهما وعدم طروء الفناء عليهما ، كان ذلك مخالفا لما دلّ على طروء الفناء على كلّ المخلوقات ، مثل قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (١). وحيث كان ذلك مخالفا له ، فيجب أن لا تكونا موجودتين الآن حتّى لا يلزم طروء فناء عليهما.
والجواب عنه ، ما مرّ في مقدّمة الرسالة في تفسير هذه الآية الشريفة.
وحاصله أنّه يمكن أن يكون معنى هلاك كلّ شيء ـ على تقدير إرادة العموم ـ ضعف وجود الماهيّات الممكنة وليسيّتها بالنظر إلى ذواتها ، وعلى تقدير أن يكون المراد بهلاكها طروء العدم عليها بالفعل في الواقع ، فيمكن أن يكون الآية مخصّصة بما عدا الجنّة والنار ، بل بما عدا المستثنيات التي دلّ الدليل على بقائها ، كما مرّ بيانه في ذلك الموضع من
__________________
(١) القصص (٢٨) : ٨٨.