المقدّمة.
والحاصل أنّ إيراد هذه الشبهة على المعاد الجسمانيّ لا وقع له ، فبم أوردوها عليه؟
قلت : الحال كذلك ، إلّا أنّ من أوردها عليه كأنّه نظر إلى أنّ المعاد الجسمانيّ بظاهره لو كان حقّا ، لكان حقّا كما نطق به الشرع ، وقد نطق أيضا بوجود الجنّة والنار الآن ، وأنّهما تكونان جزاء للمكلّفين في القيامة ، وحيث كان وجودهما الآن ممّا يأباه العقل كما ذكر ، وكان يجب تأويله ، كذلك يجب تأويل ما دلّ على المعاد الجسمانيّ بالحمل على خلاف ظاهره. وبهذا يمكن أن يرجع ما ذكر من الشبهتين المذكورتين على وجود الجنّة والنار إلى الشبهة على المعاد الجسمانيّ أيضا ، فتدبّر.
وهذا الذي ذكرناه إنّما هو تقرير الشبهة التي أوردها المنكر للمعاد الجسمانيّ عليه.
وأمّا الجواب عنها ، فبأن يقال : لا امتناع في أن يكون مكان الجنّة محدّب الفلك الثامن الذي يسمّى عند الحكماء بفلك البروج ، وفي لسان الشرع بالكرسيّ ، ومقعّر الفلك التاسع الذي يسمّى عند الحكماء بالفلك الأطلس ومحدّد الجهات ، وفي لسان الشرع بالعرش الأعظم ، أي فيما بين الفلكين كما قيل : إنّ أرض الجنّة الكرسيّ ، وسقفها عرش الرحمن.
ويمكن حمل قوله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى * عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) (١) ، عليه أيضا ، كما قال بعض المفسّرين كالشيخ الطبرسيّ رحمهالله في تفسيره : «إنّ سدرة المنتهى هي شجرة نبق عن يمين العرش فوق السماء السابعة ، ثمرها كقلال هجر ، وورقها كآذان الفيول ، يسير الراكب في ظلّها سبعين عاما ، والمنتهى موضع الانتهاء لم يجاوزها أحد ، وإليها ينتهي علم الملائكة وغيرهم ، ولا يعلم أحد ما وراءها. وقيل : ينتهي إليها أرواح الشهداء. وقيل : هي شجرة طوبى كأنّها في منتهى الجنّة ، عندها جنّة المأوى ، وهي جنّة الخلد يصير إليها المتّقون. وقيل : يأوي إليها أرواح الشهداء» (٢) ، انتهى.
ووجه الحمل ظاهر ، إذا حمل قوله : «عن يمين العرش» على يمين مقعّر العرش ،
__________________
(١) النجم (٥٣) : ١٣ ـ ١٥.
(٢) راجع مجمع البيان ٩ / ١٧٥.