في الأمكنة الأخرى بالقسر دائما ، وكلاهما مندفعان.
أمّا الأوّل : فلأنّه بعد تسليم الكرويّة ولزوم كون فرجة هناك ، يمكن أن تكون تلك الفرجة ، لا خلاء ولا ملاء كما يقولون فيما فوق محدّد الجهات.
وأمّا الثاني : فلأنّه على تقدير تسليم لزوم كون عناصر وأفلاك في ذلك العالم الآخر مثل العالم الأوّل ، يمكن أن يكون فيه مركز ومحيط أيضا ، كما في العالم الأوّل ، ويقتضي بعض موجوداته الميل إلى مركزه ، وبعضها الميل إلى محيطه ، مثل موجودات العالم الأوّل ، من غير لزوم محذور.
على أنّا لا نسلّم لزوم كون عناصر وأفلاك هناك كما في هذا العالم ، إذ يمكن أن يكون فيه أجسام أخر مخالفة في الصفات واللوازم ، بل في الحقيقة كموجودات العالم الأخرويّ ، وإن كانت أجساما أيضا. فعلى هذا يمكن أن يكون الجنّة والنار موجودتين الآن بالفعل في ذلك العالم الآخر ، ولا تكونان محسوستين لنا في هذا العالم.
وهذان الجوابان أيضا ، وإن كانا ممّا يمكن التمسّك بهما في دفع تلك الشبهة ، إلّا أنّ الثاني منهما كأنّه يخالف ظاهر ما يدلّ على أنّ الجنّة والنار في هذا العالم ، فلا تعويل عليه. والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
ثمّ إنّه من تلك الشبه التي تمسّك بها المنكرون للمعاد الجسمانيّ ، أنّه لو كان حقّا ، وكان كما نطق به الشرع ، والحال أنّ الشرع كما نطق بالمعاد الجسمانيّ ، كذلك نطق بتأبيد الثّواب والعقاب الجسمانيّين بالنّسبة إلى بعض ، والحال أنّ ذلك التّأبيد لا يمكن أن يكون إلّا بحصول تحريكات غير متناهية للقوى الجسمانيّة ، لزم منه عدم تناهي أفعال القوى الجسمانيّة ، وهو باطل كما بيّنه الحكماء في موضعه.
وأيضا يلزم منه دوام الحياة مع دوام الاحتراق ، وهذا أيضا باطل.
والجواب عنها ، أنّا لا نسلّم أنّه يلزم من ذلك عدم تناهي أفعال القوى الجسمانيّة ، بل إنّما يلزم منه عدم تناهي انفعالاتها ، حيث إنّ إدراك اللّذّة والألم الحسّيّين انفعال لا فعل.
وما ذكره الحكماء من الدّليل على عدم التناهي فهو على تقدير تماميّته ، إنّما ينهض دليلا على بطلان عدم تناهي أفعال الجسمانيّات المادّيّات ، لا على بطلان عدم تناهي